"الرحلة المشؤومة"، بهذه الكلمات وصف المُفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد اختفاء حنّا ميخائيل (1935) المعروف باسمه الحركيّ أبي عُمر، في تموز/ يوليو من عام 1976، وهو في طريقه البحريّ، بصُحبة تسعةٍ من كوادر حركة فتح، من بيروت إلى طرابلس، إبّان الحرب الأهليّة اللبنانية.
كثُرٌ هُم قياديّو اليسار والثورة الفلسطينية الذين غيّبتهم هذه الحرب، لكنّ شخصية أبي عمر، التي جمعت المعرفة الأكاديمية بالمُمارسة العسكرية الميدانية، تبقى من العلامات الفارقة التي لا بدّ من استعادتِها، والنظر العميق في سيرتها. وهذا ما يتمثّل في الشريط الوثائقي الذي بثّه "التلفزيون العربي"، مؤخّراً، ضمن برنامج "مُختفون"، مُتتبّعاً لغز الاختفاء، في محاولة للوصول إلى الجهة السياسية التي وقفت وراء هذه الجريمة. بالتوازي مع هذا الجهد التوثيقي الذي لا يُرافِع ضدّ جُناة مجهولين، تميّز الشريط بملامح إنتاجية وبصرية ذات جودة عالية.
من "هارفارد" إلى جبهات القتال
ينطلق الوثائقي من تلك الانتقالة في سيرة أبي عمر، من حياة "خِرّيج هارفارد" المُشتغِل في شؤون النظرية السياسية، كما تجلّت في كتابه "السياسة والوحي: الماوردي وما بعده"، إلى حياة القيادي العسكري، التي اختارها بعد نكسة 1967. إذ غادر الولايات المتحدة الأميركية إلى عمّان مُنخرِطاً في صفوف الحركة الوطنية. عودةٌ سرعان ما عقبها ارتحالٌ آخر، وإلى بيروت هذه المرّة، بعد أحداث أيلول الأسود 1969.
شخصية فريدة أولت الفكر أهمّية كما الممارسة السياسية
استضاف الوثائقي كُلّاً من: الباحث صقر أبو فخر، والسياسية الفلسطينية حنان عشراوي (ابنة خال أبي عُمر)، والعضو السابق في المجلس الثوري لحركة فتح معين الطاهر، والكاتب عبد الفتاح القلقيلي، والرئيس السابق لحزب الكتائب اللبنانية كريم بقرادوني، في محاولة لعرضِ قضيّة الاختفاء من جوانب سياسية وتاريخية مُتعدّدة، بعد مرور سبعة وأربعين عاماً عليها.
لفَتَ الطاهر، في حديثه، إلى أنّ ميخائيل يُعدّ من الأسماء التي بدأ معها التيار اليساري داخل فتح بالتبلوُر، تيارٌ تُمكن ملاحظة تأثُّره بالثورة الفيتنامية، ونقديّته لخطّ الحركة الأساسي وسياساتها من الداخل. بدوره، أشار القلقيلي إلى الدور التثقيفي والتنظيمي الذي بذله أبو عمر مع الكوادر، للتخلُّص من حالة "زغرِد يا رصاص واخرس يا قلم" التي روّج لها "اتّحاد الكُتّاب" آنذاك، والانتقال إلى وعي فكرة أن "الثورة قد أصبحت عِلماً، ويجب أن يدرس الجميع عِلم الثورة".
بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975) بعامٍ واحد، كان أبو عمر على موعد مع تلك "الرحلة المشؤومة". ولو أردنا فهم الغاية منها، فيجب النظر في معارك مُخيّم تلّ الزعتر حينها، الذي طوّقته قوى اليمين المسيحي، فأرادت قيادة الثورة الفلسطينية توسيع المعارك صوبَ الشمال اللبناني (طرابلس)، لتخفيف الضغط عن المخيّم، كما فسَّر الطاهر، وفي هذا السياق تندرج رحلة صاحب "السياسة والوحي". ولكن بعد انطلاق الزورق المطّاطي، عَشيّة 20 تموز/ يوليو 1976، من بيروت، انقطع الاتصال بمَن فيه، لتكون آخر برقية وصلت من العناصر "انمسكنا"، كما وضَّح ضيف البرنامج، أبو فخر.
الجرح المفتوح
من ناحية لوجستية عسكرية، يتّفق أبو فخر وعشراوي حول مسؤولية جيش الكيان الصهيوني عن العملية، كونه أقدر من قوى اليمين اللبناني على تسيير دوريّات بَحريّة في تلك المنطقة، وإن لم تنعِ القيادة أبا عمر، حسب عشراوي، فـ"ظلّ الجرحُ مفتوحاً". لكنّ الطاهر يختلف مع هذا الرأي، ويُؤكّد مقدرة تلك القوى (وبالتحديد تنظيم حزب الكتائب)، من خلال مليشياتها، على تسيير دوريات وقطع الطريق البحري، إذ "سبق أن أُلقي القبض على عدد من العناصر وحوكِموا". في حين اكتفى بقرادوني - بوصفه واحداً من المسؤولين السابقين عن عمليات تبادل الجُثث والأسرى - بالردّ على هذا، ذاهباً إلى أنّ "إسرائيل" هي الفاعل الحقيقي، وخيارها في تنفيذ ذلك بمنطقة تتبع لليَمين المسيحي، ليس أكثر من مُناورة لدفع التُّهمة عنها، وتحميلها للآخرين.
لم تقف قائمة الاتهام على هاتين الجهتين، كما يوضّح الشريط، بل تعدّتهما لتصل إلى القوّات السورية، التي كانت قد دخلت البلاد تحت اسم "قوّات الردع العربية"، وهذا ما لم يُرجّحه الطاهر، وأفادت عشراوي بأنّ القيادة السورية نفَت عِلمها بالحادثة، في أحد اللقاءات التي جمعت حافظ الأسد بياسر عرفات.
أخيراً، يعود أبو فخر لعَرْض دلائله البحثية الخاصة، من خلال الرجوع إلى كتاب "من ميشال عفلق إلى ميشال عون: تجارب في علاقة مستحيلة" ("رياض الريّس"، 2003) لفايز قزّي، والذي ورد فيه أنّ ياسر عرفات قد كلّف قزّي شخصيّاً بالبحث عن أبي عُمر، وأن يسأل أمين الجميّل (رئيس حزب الكتائب، ورئيس لبنان بين عامَي 1882 و1886) بالتحديد عن مصيره، وبعد مدة، أجابه الجميِّل بأنّ رُكّاب الزورق المفقود كانوا، بالفعل، مع مليشيا "الكتائب"، وأُعدِموا قبل أن يُدفَنوا في منطقة بين بكفيّا وضهور الشوير.
توليفٌ احترافي يستعيد قضية عمرها سبعة وأربعون عاماً
بمزيج بين التوثيق والمشاهد التمثيلية، تمكّن "مُختفون" من تقديم مادّة أرشيفية وبصرية رفيعة حول القضيّة، كما أقام سِجالاً بين وجهات نظر الضيوف، والخلفيّات السياسية التي قَدِموا منها. تلتقط الكاميرا الرأي وتضع قبالته ما يؤكّده أو يدحضه، وبين الرأيين صوتُ الرَّاوية يسُدُّ ما يُمكن أن ينتاب السرد من ثغرات؛ فالضيف بالنهاية لا يُحيط بتفاصيل المشهد كُلّياً، وأحياناً لا يرغب في قول "كلّ" ما عنده، وهنا تكمن أهمّية الوثائقي ووظيفته. الموسيقى في الخلفيّة لم تكن أمراً ثانوياً أبداً.
كذلك الملمح الإنساني حضر بقوّة في الوثائقي عند الحديث عن عائلة أبي عُمر: والده ووالدته اللذان ظلّا ينتظران عودته، وكذلك زوجته جهان حلو، التي لم توفّر جهداً للكشف عن مصيره، فضلاً عن مُحاولات إبقاء إرثه الفكري والنضالي حيّاً، من خلال الكتاب الذي أصدرته عن رفيق دربها بعنوان "غُيّب فازداد حُضوراً: حنّا إبراهيم ميخائيل (أبو عمر)" (2019).
يُشار إلى أنّ "مُختفون" هو واحدٌ من وثائقيّات "التلفزيون العربي"، إلى جانب: "كنتُ هناك"، و"مُذكّرات"، و"في رواية أُخرى"، و"كواليس"، و"عين المكان"، ستكون لنا معها وقفات على صفحات "العربي الجديد". يُبثّ البرنامج عند السادسة والنصف (بتوقيت القدس) مساء الأربعاء. حيث "يتتبّع قصص شخصيات عربية اختفت في ظروف سياسية غامضة من دون أن يظهر لها أثر، ويعرض مواقف ذوي المختفين، ويقدّم السيناريوهات المُفترضة لعملية الإخفاء". ومن قضايا الاختفاء التي سبق أن تناولها: قضية الناشطة السورية رزان زيتونة ورفاقها، وقضية الأب باولو دالوليو، وقضية الناشطَين دونغ صاموئيل وأغراي أدري من جنوب السودان.