قبل شهرين من اليوم، كنتُ قد بدأت أُعدّ نفسي لرحلة طال تأجيلها الى العاصمة الأوكرانية كييف، هذه المدينة التي تعرّفت عليها وتحمّست لزيارتها بفضل ما روتْه لي عنها وعن ثقافة شعبها الصديقةُ الفنّانة التونسية الأوكرانية نادية الكعبي لينكي. في كلّ مرّة كنت ألتقيها، كانت نادية تتحدّث عن تاريخ عائلتها، عن والدها التونسيّ وحكاياته، عن والدتها الأوكرانية، وعن محطّات كثيرة لعائلة مهاجرة تنقّلت بين تونس وكييف ومدن عدّة، إلى أن استقرّت في برلين، حيث تعيش وتعمل اليوم مع زوجها وشريكها الفنّي تيمو الكعبي لينكي.
وُلدت نادية الكعبي لينكي في تونس العاصمة عام 1978، وتخرّجت من "معهد الفنون الجميلة" فيها، لتُكمل دراستها العليا في "جامعة السوربون" بباريس، حيث حصلت على شهادة دكتوراه عام 2008. وهي تتقن، إلى جانب العربية والأوكرانية، كلّاً من الفرنسية والإنكليزية والألمانية والإيطالية. مزيجٌ ثقافي ولغويّ يجعلها تختصر في حضورها واشتغالاتها تاريخاً غنياً من المؤثّرات الحضارية ينعكس بعمق في أعمالها الفنّية المفاهيمية. أعمالٌ تستخدم لينكي فيها العديد من الوسائط، من رسم ونحت وتركيب، متوخّيةً وبشكل دائم البُعد الجمالي في طرح الشكل النهائي للعمل، الذي يعتمد في أغلب الأحيان على التقصّي والبحث.
منذ طفولتها، اصطدمت لينكي بالأجواء القمعية القائمة في كلّ من النظام السوفييتي في أوكرانيا ونظام بن علي في تونس، وهو ما يشرح تمحور جزءٍ كبير من أعمالها حول مسائل الحرّية والعدالة، إضافة إلى مواضيع الهويّة والانتماء. فالمؤثّرات الثقافية والحضارية الأوكرانية، وتلك التونسية والعربية، وذاكرتها الفردية والجماعية، والأبعاد الجيوسياسية ــ حاضرةٌ جميعاً في تركيبة لينكي النفسية وفي وعيها الفنّي منذ بدايات تجربتها. وربما يزيدُ من هذا الحضور عدمُ قدرتها، حتى اليوم، على الحصول على جواز سفر أوكراني، لأسباب بيروقراطية بحتة تعود إلى هيمنة العقلية السوفييتية وتعقيداتها التي فرضت نفسها حتى بعد إعلان استقلال البلد عام 1991.
ليست الجائحة هي ما تحول دون لقائنا هذه المرّة، بل الحرب
قبل سنتين من الآن، إذاً، دعاني كلّ من نادية وزوجها تيمو لزيارة منزلهما الجديد في كييف، والإقامة مع العائلة لبضعة أيام، أنا الذي أتقنت فنّ المشاكسة مع ولديهما الجامحين الممتلئين بالحياة إبّان إقامتنا الفنية المشتركة في جنوب إيطاليا قبل ثلاث سنوات. في تلك الإقامة الإيطالية، تعمّقت علاقتي بالزوجين بشكل أكبر، وأُعجبت بشكل عميق بالديناميكية العاطفية والفكرية التي تربطهما. كانت نادية تقف أمام جدران مدينة غالاتينا الإيطالية، مسحورةً بنقوشها، بنتوءاتها وعوامل التعرية فيها؛ فالجدران بالنسبة إليها حواجز وأداة فصل، ولكنّها أيضا كالغطاء أو الجلد للمدينة، والشاهد الأساسي الأكثر حميمية لتفاصيل حياة سكّانها وخباياهم. من هذا المنطلق، خلقت نادية الكعبي لينكي من مفهوم الجدار وسيلةً لكشف العلاقة بين المرئيّ واللامرئيّ، المحسوس واللامحسوس، تماماً كمفهموم اللغة والكتابة وما يكمن بينهما من طاقة يمكن توظيفها في دراسة مفاهيم سياسية واجتماعية ونفسية تصبّ في عمق سلوكنا البشريّ.
حالت ظروف جائحة كورونا، ثلاث مرّات، دون سفري إلى كييف. تجدّدت الدعوة للمرّة الرابعة كي أذهب إلى هناك في الرابع من آذار/ مارس الجاري، حيث كان من المتّفق أن نلتقي احتفاءً بافتتاح نادية معرضَها الفردي في "المتحف الوطني" بكييف: مناسبة لا يمكن تفويتها، وربما تشكّل اعترافاً غير رسمي ــ أو رسميّ ضمن دائرة المجتمع الفنّي هناك ــ بمواطنيتها. أجبت على الدعوة بالقبول والتأكيد، وكان وعداً أن نلتقي في الرابع من آذار/ مارس...
يلقي المعرض ــ وعنوانه "التيّار الخَمول" (Blindstrom) ــ الضوء على حقبة الحكم الستاليني في أوكرانيا من خلال الكشف عن مجموعة كبيرة من اللوحات الفنّية التي بقيت مخبّأة في أقبية المتحف لسنوات طويلة، بعضها تعرّض للتشويه والتخريب المقصودين، والبعض الآخر تعرّض للكثير من التلف بفعل ظروف التخزين السيّئة. لوحات أنتجها فنّانون رائدون في تلك الفترة، غير أن أغلبهم تمّت محاكمتهم، التي وصلت إلى حدود القتل أحياناً، على اعتبار أن أعمالهم تشكّل "خطراً" و"تهديداً للأمن القومي". تلقي الفنانة الضوء على تلك المرحلة من خلال هذه اللوحات التي تُعرض كعمل فنّي أدائي تقوده مجموعة من المرشدين المكفوفين طيلة فترة المعرض، الذي يشمل، أيضاً، أربعة أعمال تجهيزية تتناول فيها لينكي الممارسات التي ينتهجها البشر والفنّانون في زمن الاضطرابات السياسية والاجتماعية، محاولةً فهم الكيفية التي يمكن من خلالها توثيق أفعالهم وأعمالهم المتنازع عليها وإعادة تفسيرها. المعرض، إذاً، عن الذاكرة الجماعية والفنّية للماضي، وعن كيفية خلق رؤية مستقرّة للمستقبل. وهو يلقي أيضاً الضوء على المصائر الفردية، وعلى فعْل الاستيلاء على التاريخ الثقافي عن طريق القمع والتخريب.
ليست الجائحة هي ما تحول دون لقائنا هذه المرّة، بل الحرب: أعنف وأبشع حقيقة يمكن قبولها أو مواجهتها. تصاعدُ وتيرة التهديدات حال دون سفر العائلة إلى كييف، ودون سفري بالتالي للقائهم. اتّفقنا أن نتمهّل قليلاً؛ المعرض تحت وقف التنفيذ، والبلاد في حالة طوارئ. صبيحة الرابع والعشرين من شباط/ فبراير الماضي، بدأت روسيا قصْف خاركيف وكييف ومدن أوكرانيا الأُخرى، لتدخل البلاد في نفقٍ مُظلم.
منذ اليوم الأوّل للحرب على أوكرانيا وأنا أشعر بنوعٍ من التماهي مع مشاهد الخوف والهلع: الهرب من القصف، صور الناس في أنفاق المترو... تلاحقني عبارة "كان يمكن أن أكون هناك" طيلة الوقت، تزورني مرّات عدة خلال النهار، أسترجع محادثاتي مع نادية وأفكّر بعنف ما يحدث الآن وأثره الشديد عليها، هي التي تُتابع عن بعد كيف يتمّ تدمير بلادها وتهجير شعبها في أشرس حرب على أوكرانيا وسيادتها.
المعرض ليس أولويّةً بالنسبة إليّ في ظلّ ما يحدث في وطني
ربّما هي صور الحرب التي تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي من قلب الحدث وعلى مدار الساعة، وربما هي "عوارض ما بعد الصدمة"، وأنا الذي ما زلت أحاول أن أتعافى من صور الدمار وصوت الزجاج على أسفلت الشوارع بعد انفجار بيروت في الرابع من آب/ أغسطس 2020؛ أحاول التعافي من ذكريات القصف الإسرائيلي في حرب تمّوز/ يوليو 2006 على لبنان، ومن صوت الغارات الجويّة، ومسلسل العبوات الناسفة، والاقتتال في أحياء بيروت، والاختباء في الملاجئ. كل هذه الصور والذكريات تعود دون استئذان لتهزّ استقرارك النفسي. في مرحلة يُصَوِّر لك عقلُك أنك بعيدٌ كلّ البعد عن مناطق النزاع وأنك في مأمن عن كلّ هذا، فتأتي الحرب على أوكرانيا لتذكّرك بهشاشة الأنظمة السياسية العالمية والمؤسّسات الدولية حتّى وأنت في قلب القارّة الأوروبية. تضيق المسافات وتقترب أوكرانيا من تونس وفرنسا، من بيروت وسورية وفلسطين والعراق...
"المعرض ليس أولويّةً بالنسبة إليّ في ظلّ ما يحدث في وطني حالياً. كلّ شيء أصبح ثانوياً أمام مشاهد القتل والدمار. سأعود الى كييف وأنا كلّي إيمان بأنها ستتحرّرعن قريب وسأفتتح المعرض وسأحتفل بالنصر. كلّي ثقة في ذلك"، هكذا أجابتني نادية في آخر اتّصال بيننا قبل أيّام. "لم أشعر من قبل بهذا الإحساس العميق بالفخر؛ فخورةٌ من كلّ قلبي بصمود الشعب الأوكراني وشجاعته. أشعر بأنّني مواطنة حقيقية. لقد نجح بوتين في حربه هذه بمهمّة واحدة: توحيد الأوكرانيين وتعزيز إحساسهم بالانتماء"، تقول. وتضيف: "لا يمكنني فصل الأحداث الدموية والتراجيدية التي يعيشها وطني، أوكرانيا، عمّا يعيشه إخواننا في فلسطين. أعتقد أننا نواجه اليوم، في كلا البلدين، أعنف وأشرس أنواع الاستعمار. لا بد أنْ نتوحّد اليوم كبشر في مواجهة هذا المارد الاستعماري، وأن نُطالب بحقّنا الأصيل في العيش بكرامةٍ وأمان على أرضنا".
* فنان تشكيلي وقيّم فنّي من لبنان