تذكرُ كتبُ التراجِم أنّ ابن جنّي (شارح المتنبي وصاحب "الفَسر") كان مُمتّعاً بإحدى عينيه، أي لا يرى بالثانية. لا بل هو من أثبتَ ذلك في شعره قائلاً: "فقدْ وحياتِكَ ممّا بكيتُ/ خشيتُ على عيني الواحدة. ولولا مخافةُ ألّا أراكَ/ لما كانَ في تركها فائدة".
على أيّ "أنا" تأسّس النحو العربي، قبل ابن جنّي بمئتي عام تقريباً، أواسط القرن الهجري الثاني، ربّما على تراجيديا سيبويه الميّت كمداً وغمّاً، أو على زهد معلّم سيبويه وصاحب "معجم العين" شيخنا الفراهيدي الذي مات بهدوء بعيداً عن لوثات السلطة والتسلّط.
دعونا نبتعدُ عن المفاصلة بين الشعر والنحو، بين الأنا المكلومة والأُخرى النرجسية. هذا "مُمتّعٌ" آخر يصفُ حال عينِه الواحدة، ليس نحوياً بل شاعر ترجمَ له أبو سعيد السكري في كتابه "أخبار اللصوص" اسمه طهمان بن عمرو وله قصيدة شهيرة بمطلعها: "ألا يا اسلما بالنيرِ من أمّ واصلٍ/ ومن أمّ جبرٍ أيها الطّللانِ" إلى أن يصل إلى بيت القصيد: "عذرتُكِ يا عيني الصحيحةُ والبُكا/ فما لكِ يا عوراءُ والهملانِ". وهذا بيتٌ من الأشباه والنظائر قيل بصيغ مختلفة.
إذا كان العماءُ الكامل كرامةً كاملة، من المعري إلى طه حُسين، فماذا عن العين الواحدة، المُبصِرة طبعاً، أهي الحجاب أم تلك التي "متّعت" صاحبها؟ ما علينا، أليس بيتُ طهمان أرقّ وأمتع مِن شعر مَن شرح للمتنبي أكثر من ستة آلاف بيت، ولما قال الشعر قاله على تلك الصورة النظمية وحسب!