دمشق وعاداتها.. أسقف بريطاني في بلاد الشام بالقرن الثامن عشر

21 اغسطس 2021
أحد الخانات في دمشق في القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

زار الرحالة والأسقف البريطاني ريتشارد بوكوك (1704 - 1765) مدينة دمشق في عام 1738 أيام حكم الوالي حسين باشا، فقدم بذلك شهادة ثمينة عن الفترة التي بدأ البديري الحلاق يكتب تاريخه المعروف باسم "حوادث دمشق اليومية".

ينحدر بوكوك من أسرة أرستقراطية، فقد تلقى تعليمه في أكسفورد وكامبردج، وحصل على رتبة الأسقفية، وسافر في أوروبا قبل أن يقوم برحلته الكبرى إلى مصر وبلاد الشام، والتي صدرت بمجلدين ضخمين تحت عنوان "وصف الشرق" يضمان رسوماً ومخططات، حيث عدت هذه الرحلة واحدة من أهم الرحلات الغربية إلى الشرق، وكانت مصدر إلهام لكثير من الرحالة الذين أتوا بعده.

وصل بوكوك إلى ميناء يافا في فلسطين قادماً من دمياط المصرية في العاشر من آذار/ مارس 1738. وبعد أن قدم وصفاً لفلسطين ولبنان؛ توجه إلى دمشق عن طريق البقاع، حيث أقام في دير للرهبان، وبدأ بسرد التاريخ الديني لمدينة دمشق اعتماداً على ما ورد في الكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، وهو سرد فاقد لأي قيمة مضافة، كونه نقلاً حرفياً لما هو مدون في الموروث الديني اليهودي والمسيحي.


المسجد الأموي

يقول بوكوك إن الأتراك (ويعني بذلك المسلمين) يسمون المسجد الأموي على اسم القديس يوحنا المعمدان، ويستدرك بأن المسيحيين يقولون إنه كان على اسم يوحنا الدمشقي الذي يرقد جسده فيه. ويروون بعض المعجزات التي حدثت عندما حاولوا إزالة ذلك الجسد. ويقول: "مع ذلك؛ لديهم تقليد مفاده بأن هذه الكنيسة بناها الإمبراطور هرقل، وأنها كانت مكرسة في البداية لزكريا، وهو أمر غير محتمل؛ لأننا لا نرى أن مسيحيي العصور الأولى، وخاصة اليونانيين، ميزوا كنائسهم بأسماء الأنبياء والقديسين الذين كانوا قبل المسيح".

ولا يستبعد بوكوك أن تكون هذه الكنيسة في بدايتها مكرسة لزكريا، ولكنها قد تكون تلقت بعد ذلك اسم القديس يوحنا الدمشقي، إما عن طريق تكريس رسمي، أو لأن جسد ذلك القديس قد أودع فيها، كدير جبل سيناء، يُدعى سانت كاترين.

ويشير رحالتنا إلى أن المؤرخين العرب ذكروا أن المسجد قد جرى تحسينه في عهد خليفة صالح، قرابة السنة السادسة والثمانين للهجرة، الأمر الذي جعل بعضهم يؤكد أنه بناه. ويقول إنه بالقرب من هذا المسجد يوجد مسجد آخر، وهو مبنى متين للغاية من الحجر المنحوت، ليس كبيراً، لكن تصميمه رائع؛ وفيه قبر جميل للملك الظاهر (بيبرس). ويحدثنا عن مسجد مزين بشكل جميل بأعمدة الرخام الجميلة، وآخر يحتوي على مئذنة مرتفعة للغاية، حيث تم تغليفه بالكامل بالبلاط الأخضر. والمقصود هنا مسجد سنان باشا على الأرجح. ويلفت الأنظار إلى وجود كنيسة على اسم القديس سمعان العامودي في الركن الشمالي الشرقي من أسوار المدينة.


مشافي دمشق

بعد ذلك يحدثنا عن مشافي المدينة وما حولها، ويقول إن هذا المشافي تمول عن طريق الصدقات، ويشير إلى أنه في الجانب الشرقي من المدينة، وتحديداً في بيت نعمان السوري، مستشفى لرعاية مرضى الجذام، وأن فيه نقشاً عربياً ترجموه له على أنه دعاء بالشفاء. وبعد ذلك يحدثنا عن التكية السليمانية ويصنفها مع المشافي بقوله: "تقع في الطرف الشرقي من ميدان دمشق. أسسها السلطان سليمان أو سليم الثاني. تم بناء الغرف حول ساحة مع رواق أمامها، وهي مغطاة بالقباب، لا يقل عن أربعين قبة مغطاة بالرصاص. في الجانب الجنوبي من الفناء هناك مسجد جميل مغطى بقبة كبيرة. أمامه رواق رائع ومئذنتان جميلتان. بالقرب منه مستشفى (تكية)، وكلاهما تقتصران على تقديم الطعام للفقراء حالياً".


حفلات موسيقية وحكواتي

وفي وصفه لمقاهي دمشق كتب يقول: "المقاهي في دمشق مبهجة بشكل ملحوظ. العديد منها عبارة عن قاعات كبيرة وسقفها مدعم بصفوف من الأعمدة الخشبية، وفي هذه المقاهي صوفا مستديرة، وأمامها بشكل عام فناء فيه بركة ماء تنبثق من وسطها نافورة مياه. والمقاصير حول الأفنية؛ إما مظللة بالأشجار أو مغطاة بالحصير. من هذه المقاهي ثمة مقهى يتوسط بردى الذي يمر عبر المدينة، وله جزيرة خلفه مزروعة بالأشجار، والمكان مناسب للغاية، مما يجعله أحد أكثر الأماكن المبهجة التي يمكن للمرء أن يتخيلها في هذه المدينة العظيمة؛ في هذه المقاهي تقام حفلات موسيقية في ساعات معينة كل يوم؛ وفي بعض الحالات، يروي شخص (الحكواتي) قصصاً عربية بطريقة رشيقة للغاية وببلاغة كبيرة. رواد هذه المقاهي لا يشربون علانية سوى الماء والقهوة. وهم في الغالب من العاطلين عن العمل، والغرباء، وغيرهم، ممن لا يصنفون من علية القوم..".


مياه دمشق وحدائقها

ويمتدح بوكوك مياه دمشق كثيراً ويقول إنها تزين المدينة والأماكن المحيطة بها، وإن تقسيمها مثير للفضول. ويؤكد أن لمياه دمشق مصدرين؛ نبع بردى ونبع الفيجة الذي يشكل نهراً كبيراً ممتاز المياه ينبع من سفح جبل، ويمتد لمسافة ربع ميل قبل أن يصب في نهر بردى. ويقول: "أهل دمشق لا يشربون ماء النهر بل ماء النبع، وهو لذيذ جداً ووافر جداً. وبعد أن يتحد النهران يسمى النهر بردى. وقبل فرسخين من دمشق، يقسم إلى مجاري ثابتة اثنان منها لا تدخل المدينة. وهناك قناة عالية لري الأراضي المرتفعة وحدائق قرية تُدعى الصالحية؛ على الحافة الشمالية لدمشق، وهذه القناة تسمى قناة يزيد، وتحتها قناة تورا، ويبلغ ارتفاعها نصف ارتفاع يزيد، وتروي بعض الأراضي المرتفعة. إلى الشمال من المدينة، من هذين الفرعين يتم توزيع عدد كبير من القنوات الصغيرة على الأراضي السفلية؛ يمر نهر بردى في جداول كثيرة عبر البلدة، وكذلك الأنهار الثلاثة الأخيرة التي تخرج منه من الجهة الجنوبية، وهي بانياس، والقلوط، والديراني، وآخر أكثر ارتفاعاً، ويسمى مزاوي، يمتد جنوب المدينة، ويسقي قرية تسمى المزة".

وحول حدائق وبساتين دمشق يقول: "تشتهر دمشق بحدائقها. وكل ما هو جميل فيها يرجع أساساً إلى الماء. بسبب التنوع الكبير في الأشجار الموجودة فيها؛ من المؤكد أنها أجمل ما في هذه البلاد. الحدائق الشرقية هي في الواقع بساتين فقط، أو غابات من أشجار الفاكهة. هناك العديد من الجداول الصغيرة التي تتخرقها، وبعض هذه الحدائق مزينة بأحواض المياه أو بالنوافير وتضم منازلهم الصيفية اللطيفة. في هذه الحدائق، غالباً ما يقضي الناس يوماً كاملاً، ويتمتع الضيوف بحرية تناول الفاكهة التي يرغبون فيها؛ وأولئك الذين لديهم منازل في حدائقهم كثيراً ما يقضون فيها مدة يومين أو ثلاثة في أيام في الصيف. هذه الحدائق محاطة بجدران من الطين غير المشوي، مصنوعة من خليط من التراب والحجارة الصغيرة والقش. يبلغ سمك الجدار حوالي ثماني بوصات؛ لكن هذا الحجم يبدو من بعيد مثل الحجر المنحوت؛ وهذه الجدران ذات مقاييس مختلفة، لكنها نادراً ما تقل عن ثلاثة أقدام مربعة".


الوالي والإنكشارية

ينقل لنا بوكوك وصفاً عن الوالي وجهاز الحكم فيقول ساخراً: "يقيم باشا دمشق في هذه المدينة التي تدعي مع المناطق التابعة لها بأنها تتمتع بالشهرة والامتيازات نفسها التي تتمتع بها مصر في الوقت الحاضر؛ وأن لديها حكومة قوية. الباشا لديه مجموعة من البوشناق، الذين يغيرهم كثيراً حتى لا يتآمرون عليه؛ ولديه أيضاً فرقة من الرجال من سكان سواحل البربر، من أجل الدفاع عنه ضد السكان في حال وقوع تمرد؛ لأنه كانت هناك محاولات سابقة، وخصوصاً عند عودته من مكة، لأن باشا دمشق هو أمير قافلة الحج التي تنطلق من دمشق سنوياً. ومع ذلك، لا تحدث الاضطرابات بشكل متكرر في هذه المدينة، ولكن عندما تصل إلى الرأس مرة واحدة، فإنها لا تستمر. هناك قوات الإنكشارية تحت قيادة الآغا الخاص بهم؛ ومن هؤلاء ثمة قسم يسمونه "القابي قول"، وهم حراس أبواب المدينة، ولكل منهم بوابة مخصصة، وفرقة عسكرية قريبة من البوابة، وسلطة مطلقة؛ ولأن هؤلاء الإنكشاريين هم الأكثر نفوذاً، فهم يؤثرون على الجيش كله، وعندما يثير رؤساء البوابات هؤلاء أي فتنة، فهي عادة تكون جدية وعواقبها خطيرة".


مسيحيو دمشق وتقسيماتهم

يحدثنا رحالتنا عن المسيحيين في دمشق، ويشير إلى أن بطريرك أنطاكية يقيم في دمشق عادة، ويقول إن تحت قيادته اثنين وأربعين من رؤساء الأساقفة والأساقفة؛ ويضيف: "اختير هذا البطريرك في حلب. فيما يخص البطريرك الراحل الذي مات هناك، كان الحلبيون يفترضون أنه من حقهم أن ينتخبوا منهم أسقفاً جديداً، لكن الدمشقيين اختاروا بطريركاً كاثوليكياً وكان الباشا (سليمان العظم) يدعمه. ولكن سرعان ما تم عزل ذلك الوالي، وشارك الوالي الجديد (حسين باشا) نجاحه مع البطريرك المقيم في حلب، والذي هو الآن معه، بينما هرب الآخر (الكاثوليكي) إلى جبل لبنان".

ويقول بوكوك إن هذه البطريركية تجني أربعين كيساً سنوياً، والتي تأتي جزئياً من عُشر ما يتلقاه الأساقفة من كل عائلة في جميع أنحاء البطريركية بأكملها، والتي تتراوح من أربعة إلى عشرين شلناً من كل منزل في السنة، وأما الجزء الآخر فتتحصل عليه من أنطاكية ودمشق والبلدات التابعة لها؛ خمسة عشر قرشاً على رخصة الدفن، وخمسة قروش عن كل زواج، يحصل عليها جميع الأساقفة في أبرشياتهم.

ويقدر الأسقف الإنكليزي أعداد المسيحيين في دمشق كما يلي: العدد الإجمالي عشرين ألف مسيحي، ألف منهم من الموارنة، ومئتا سرياني أو يعقوبي، ونحو ثلاثين عائلة أرمنية، والباقي روم. ويقول: "لكل من هؤلاء كنيسة. من الروم ثمانية آلاف يعترفون بالبابا، وأنا أسمي هؤلاء الروم الكاثوليك، الذين يعتقدون أن الذهاب إلى الكنيسة اليونانية القائمة خطيئة، ولا يسمح لهم الباشا بالذهاب إلى الكنيسة اللاتينية، أو تكوين تجمعات منفصلة لأنفسهم: لكن لديهم بعض الكهنة من عقيدتهم، يستضيفون اللاتين بشكل خاص في منازلهم ويكرموهم. هؤلاء الروم الكاثوليك يراعون حقوق وصيام الكنيسة اليونانية القائمة؛ لكن علمت أن بعض الكهنة سمحوا لهم بالصوم وفقاً لقواعد الكنيسة اللاتينية، بعد أن تمت إدانة ذلك من روما. ولدى كنيسة الروم حوالي ثلاثين كاهناً".

زقاق دمشقي - القسم الثقافي
زقاق دمشقي (Getty)

وينتقد بوكوك جوقة مسيحيي دمشق ويقول لديهم جوقة سيئة للغاية يسمونها الكورس. ولا يكتفي بذلك بل يصف مسيحيي دمشق بأنهم يمتلكون كل رذائل المسلمين، ولكنهم أكثر شهرة بذلك من المسلمين. ويشير إلى تحول الكثيرين من المسيحية إلى الإسلام لتجنب عقاب ما، أو للانتقام من مسيحيين آخرين اختلفوا معهم. ويقول هناك حوالي سبع حالات تحول إلى الإسلام في كل عام.

ويقول إن الأتراك (ويقصد بذلك المسلمين) منغمسون باللذات والرذائل إلى أعلى درجة، فالكثيرون يشربون الخمر والأفيون. لكنهم يفعلون ذلك بسرية. ويضيف قائلاً: "إن الدمشقيين مدمنون كثيراً على المتعة، ويحبون قضاء وقتهم باسترخاء وهدوء، ومعظمهم من ذوي العيون السوداء الجميلة، وعندما يكونون أطفالاً يتمتعون بجمال لافت؛ لكن مع ارتفاع الحرارة، وارتكاب الرذائل، وتطويل اللحى يفقدون تلك الوسامة عندما يصلون إلى مرحلة النضج، لكن يقال إن نساءهم هن الأجمل في العالم".


التزود بالثلج

لا ينسى أن يخبرنا الرحالة بأن الدمشقيين يحرصون على التزود بالثلج كل يوم من الجبال المجاورة، ويقول: "يكون الثلج محفوظاً في تجاويف جبلية خاصة، ويقطعونه إلى قطع كبيرة وتصل منه ستون حمولة يومياً تقدر قيمتها بنحو دولار ونصف الدولار؛ يستخدمونها في كل من النبيذ والمثلجات، والتي تكون مصنوعة إما من الليمون أو العنب المجفف (الزبيب). ولا شك في أن وضع الثلج في الخمور يفسدها، وهذا التبريد أمر غير مألوف في أوروبا". ولكنه يعود ليؤكد أن نبيذ دمشق قوي وجيد، وعموماً هو من صنف بورغندي؛ ويقول "لديهم الكثير من الأصناف الممتازة في نوعها، أما الثمار فهي في أقصى درجات الكمال، وخاصة المشمش، فلديهم خمسة أصناف منه، ويجففونه بطرق مختلفة، ويتم تصديره بكميات كبيرة إلى جميع البلدان، ولديهم طريقة لصنع القمر الدين الذي يربونه منقوعاً بالماء، أو في الكعك، وهو يحزم في لفائف ويصدر".

أما عن تجارة المدينة فيخبرنا أنها تعتمد على فرعين تجاريين، أحدهما من مكة التي يجلبون منها سنوياً مع محمل الحج تجارة بلاد فارس والهند؛ لأنه، كما يقول، عندما توقفت الإسكندرية عن كونها ميناء لتلك السلع، عند اكتشاف الطريق عبر رأس الرجاء الصالح، قيل إن دمشق كانت في ذلك الوقت المكان الذي استقبل فيه البنادقة التجارة الهندية والفارسية، ولكن تم طردهم بسبب مغامراتهم النسائية، ولذلك ذهب هؤلاء البنادقة إلى حلب، ولكن حتى الآن هناك شارع في دمشق يسمى شارع الإفرنج. وفيما يخص الصادرات؛ يخبرنا أن المدينة تصدر الحريريات والقطنيات وأدوات المائدة التي يُقال إنها مصنوعة من الحديد القديم الموجود في المباني القديمة. ويستعرض أيضاً أخباراً عن صناعة الأنصال الدمشقية الشهيرة التي يقول له مسيحيو دمشق إن وصفتها موروثة من يوحنا الدمشقي.

وبعد أن يمتدح متنزهات دمشق ويقول إنه أمضى أوقاتاً مريحة للغاية في المدينة مع مترجم دمشقي أمضى 12 عاماً في روما، يحدثنا عن محاولة أحد رجال الإنكشارية خداعه بأخذ مبلغ مالي كبير مقابل السماح له بالرحلة إلى تدمر، ولكن أحد المسيحيين الدمشقيين يخبره بأنها خديعة، وأن الوالي إذا علم بالأمر سيعيد له المال. وهذا ما حصل فيما بعد.

المساهمون