نشهدُ في هذا الزمن، بشكلٍ جليٍّ، انتصار المال كبديلٍ عن السياسية، انتصار الاقتصاد كبديلٍ عن الثقافة، انتصار التجارة كبديل عن الفكر؛ نشهدُ جميعاً في هذا الزمن انهيار الروايات التاريخيّة العظيمة، تدهورَ الشعر، واستبدال مفهوم الأصالة بمفهوم المحاكاة. لقد كانت الأفكار والقيَم الأصيلة سابقاً تشكّل جوهر العلاقات بين البشر والشعوب والدول، وتدير السلوك الإنساني على مستوى الأفراد والجماعات؛ لقد كانت، بشكلٍ أو بآخر، تعطي معنىً لوجودنا في هذا العالم. لقد تدهور هذا كله اليوم، هوَت القيم الأصيلة، وانحطّت الفنون وجمدت: لا فكرَ، بل جمودٌ وتدهورٌ وانحطاطٌ مستمر.
في شِعره، يحاول دييغو دونسيل (1964) العودة إلى تلك القيم النبيلة والأفكار العظيمة التي احتقرها فكرُ ما بعد الحداثة، يحاولُ إثبات صحّة الرّوايات العظيمة وجوهر الثقافة، شعراً، فكراً ونقداً، رافضاً بذلك كلّ رؤيّةٍ من شأنها أن تدعو إلى نهاية التاريخ، نهاية الفلسفة، ونهاية الوجود.
هكذا يقرر دونسيل أن يبدأ من نفسه، لكي يتعرّف عليها، منتقداً بذلك كلَّ مثاليّة، وباحثاً، في الوقت نفسه، عن عزاءٍ له في عوالمَ شعريّة تستوعب الفكر والمشاعر الأصيلة في آن معاً. لكن، كيف يمكن أن يحيا إنسان يعرف نفسه! يدرك دونسيل صعوبة المغامرة الشعريّة التي يخوضها، لا سيّما في عالم متقلّبٍ يتغيّر فيه الواقع كل يوم: المدينة، التكنولوجيا، العلاقات الإنسانية، وسائل الإعلام، التلفزيون، الفيديو، الإنترنت، الآفاق الرقميّة. لقد غيّرت هذه الصور المحاكية للواقع عصرنا وطمست الأخلاقَ وكلَّ ما يمكنُ الوثوق به. لم يعد بإمكاننا رؤية العالم، لقد صار حقيقةً افتراضيِّةً ولم نعد نرى إلّا صورته فحسب: أي حقيقة خارج الحقيقة.
تحوّل قصيدته الزمن الذي نعيشه إلى مكان صالح للسكن
يؤمن دونسيل بأنَّ التجريب الشعري هو الوسيلة الأكثر فاعليّة للغوص في الحاضر، ولتخيِّل أشكال أخرى له، لا سيّما بعد أن حوّل هذا النظامُ الذي نعيش فيه حاضرنا إلى فيلمٍ إباحيٍّ وصرنا مجرّد مستهلكين لكلّ شيء. هكذا يحاول دونسيل في قصيدته أن يحوّل هذا الزمن الذي نعيشه إلى مكان صالحٍ للسكن، ومن أجل ذلك يكيِّف لغته وأدواته وصوره الشعرية، علاوة على بُنية القصيدة نفسها، من أجل هذا الغرض النبيل: أن ينام رأس الحاضر في سرير مريح.
هذه ترجمةٌ لمختارات من قصائده، هو الذي يتَرجم هنا للمرة الأولى إلى اللغة العربية.
لحظاتُ خيالٍ علميّ
منذُ ذلك الحين وأنا هنا. منذ أن قال لي أحدهم إنني إذا سافرت على هذه الخطوط الجويّة، سأعود إلى كلِّ الأشياء التي عشتها معك. وها أنا الآن أنتظر.
حفرتُ في يديَّ مجرى لدمعكِ الضائع، والآن أسمعُ جريان الحنين العميق في قلبي.
لا أثرَ لكِ في الأسفل، مع ذلك عندي الوقت لكي أفكر فيَّ، وفي وحدتي.
كلّما حلّقنا عالياً في امتدادات السماء، جهلتُ إن كان وجهي تغيّر.
أعرف أنني شيءٌ صغيٌر معلّق بين هذه النجوم الساكنة والغيوم الملطّخة بهالات الطّيارين الشاحبة.
الذّكريات تتلاشى،
المشاعر أطيافُ حياةٍ
ولا يقين في الأثير.
أعرفُ أنني لا أسافر في المكان، بل في الزمن،
أعرف أنني لا أسافر في الزمن، بل في عقلي.
أسافر إلى لقياكِ كمثل من يسافر لكي يرى نفسه.
أبحثُ فيكِ عن ذلك الذي كنْتُ.
ماكرةٌ هي الحياة
وما أصعب أن أعرف من أكون،
ما أصعبَ أن أعرف من أين ستأتين.
أتمنى ألا تكوني قد غادرتِ أثرك في الماضي،
أتمنى أن تكون ضحكتكِ هناك لا تزال تبتسم،
وأن أرى أحلامك نفسها.
وفيما أطيرُ عالياً، أرى انعكاسات الغروب لشمس بعيدة تنطمس في حفرة الأفق،
أرى الغبارَ يلبسُ كلّ شيء ويطوف المجرّة.
لا أعرف أيُّ واقع هو الأكثر حقيقة،
أجهل لماذا لا يفارق الشك أفكاري.
كلّ ما أعرفه أنَّ الواقع لعبةٌ مستمرةٌ وأننا نعيش في تحولاتٍ أبديةٍ.
هكذا قرّرت أن أعودَ إلى الماضي علّني أجد هناك الشخص الذي تغلّبَ على هزائمي،
ربما أستطيع أن أنظرَ في المرآة وأرى وجهي.
أفعل هذا لأنني أبحث عن عينيك.
أخطأت في كلّ شيء حتى في أخطائي.
فقيرٌ حتى في أحلامي.
المدنُ في الأسفل تبدو امتدادات لبرامج تكنولوجية
وثمة بقعٌ من الطبيعة تنهض للتوِّ من سرير طبيب نفسيّ
ولست أعرف إن كان هنالك من يكثّف الظلال من حولنا.
ارحمينيِ يا لعبة الواقع، ارحميني يا مغامرة الذاكرة،
ارحمني أيّها العقل
الذي يحتوي كلّ تفصيل صغيرٍ عشتُه.
فقيرٌ حتى على الحلم.
أعود إلى الماضي لأنني لم أستطع أن أرى العالم إلّا في أبعاد عينيك،
أعود إلى الماضي
لأنني أريدُ أن أتعلّم من شفتيك أسماءَ الأشياء التي لا أريد أن أنساها.
البرد الآن يلبس الحاضر،
ويدفن الذاكرة.
ها أنا أصلُ إلى الماضي،
ولستِ هناك تنتظريني.
■ ■ ■
مطرٌ أحمر وأرجواني
تلتهمُ النوارس الغروبَ قبل أن يغادر آخرُ السبّاحين الشاطئ.
أفكارٌ ضائعة، رغباتٌ لا تنتهي، ظلالٌ من الجمال.
تحت تأثير الملح، كلُّ شيء يطوفُ كمثل صورة فيلم بالأبيض والأسود.
رائحةُ الزيت هي نفسها رائحةُ المحيط،
والبرد يأتي مع أثر قارب،
ويسكن في عظمِ الرقبة.
أيها الحبُّ، لا زمان بلا مكان،
لا مكان،
عدمُ يقينٍ يسكنُ المكان.
نصارع في هذه الحياة من أجل أن نستمر،
وها هي الطائرات تدخلُ وتخرجُ من هذا المطار القريب،
ها هي المصانع تشعلُ أضواءَها وتعلنُ الحياة،
ها هي واجهات الفنادق تغيّر لونها كل لحظة.
أفكّرُ في هذا البلد وأفهمهُ من ملصقات بيعه،
من متاجر التصفية،
من إعلانات الإباحة التي تعكسها نوافذ السيارات.
أفكّرُ في هذا الخداع،
أفكّر في خداع وقتي وزمني.
أفكّر كيف ضاع المعنى
وصار الفكر كارثة اجتماعية وخراباً اقتصادياً.
أفكّر في أكاذيب اليوم،
في ثمرة يأسنا.
وفيما نحتسي القهوة بصمتٍ، ننظر إلى بعضنا
ونقيسُ قلبنا بحجم خسارتنا،
نقيس أحلامنا التي طاردناها فيما قهرتنا.
الحياةُ، نعم، الحياة، صارت معقّدةً لدرجة أنَّ الأشخاص العاديين، مثلك ومثلي، لا يقوون على تحمُّلها.
غَرِقنا في مراراتنا الأكثر بساطة ولم نعد نعرف معنى الحبّ.
ما أثقلَ الأيام!
ما أثقل هذه المعركة اليوميّة،
هذه الآلة المحيّرة التي جعلتنا نخسر كرامتنا.
يسجننا هذا العصر، تسجننا تكهنات العمل
يسجننا ضياع الحبِّ.
مطرٌ أحمر وبنفسجيّ ينزل من السماء،
وفي شاشات التلفزيون البعيد يتحدّث رجل أعمال في عزِّ شبابه لغةً يصعب عليَّ فك رموزها.
ها قد وصل القارب.
لا أحد ينزل منه إلا أنا وأنتِ.
في العشرين من عمرنا
لم نعرف حتى الآن شعور الغضب.
ما ألطفَ رؤيتك، ما أجملَ أن أشعرَ بشبابك،
وما أبهى أن أحضن نفسيَ فيك.
بطاقة
دييغو دونسيل شاعر وناقد وروائي إسبانيّ، وُلد عام 1964 في مالبارتيدا دي قصرش، غرب إسبانيا. إضافة إلى كتب وتسجيلات صوتية في السرد، صدرت له ستّ مجموعات شعرية، من بينها: "العتبة الوحيدة" (1990)، و"ظِلٌّ عابر" (1998)، و"نهاية العالم في شاشات التلفاز" (2015)، "الهشاشة" (2021). نال العديد من هذه المجموعات جوائز شعرية، كان آخرها "جائزة مؤسسة لويفي"، التي نالها هذا العام عن مجموعته "الهشاشة".