ذاتَ غَفْلة
ذاتَ غَفلةٍ يَأتي الموت
لا يُمهِلُكَ التِفاتَةً، لا يُمهلُكَ الوَقتَ لكي تَندهِش
لا شَمسَ بعد اليوم في عَينَيك
لكِنّها تَبعثُ الضوء، يَعدو مِن قَدَميكَ حتّى رَأسِك
وَتَبقى أنتَ قابِعًا حَيثُ أنت، وَيَجري الضوء
يَترُكُكَ خَلفهُ في الظلِّ ويَعدو
أبيضَ يَتسَلَّقُ الجُدران
فأصفرَ يَتسَلَّقُ هامات النَّخيل
حَتّى أطرافِهِ الرّاجِفة
فأحمرَ يَنأى في الأُفُق
ثُمَّ يَغيبُ وَراءَ الظلام..
ذاتَ غَفلَةٍ يَأتي
وَيَترُكُ خَلفَهُ فَراغَك
تَتَلاقَفُكَ الألسُنُ خَبرًا عاجِلًا
فَيَطرُقُ اسمَكَ كُلَّ الآذان
ويَخرُجُ من سَمّاعَةِ المَسجدِ الصّارِخة
يَسرَحُ مَعَ الماءِ ويَخفِقُ بَينَ سَعْفِ النخيل
يَبلغ القُرى الأُخرى، الغافيةَ في رَتابَتِها، فَتَصحو.
لَيس أسرَع من الموت سِوى انتشارِ خَبَره
وهكذا تُصبح أنتَ رَجُل ذَلكَ اليَوم
ولَعَلّك كُنتَ سَتَنتَشي جَذلًا
لوْلا أنَّك..
ذاتَ غَفْلَةٍ يَأْتي
فتُغادِرُ أصداءُ خَطَواتِكَ الطرقات
وتَفرغُ أركانُ الغُرفَة من ضحكَتِك
وهكذا يَفقِدُ العالَمُ ثَغرًا وبِضعَ ابتِسامات
ويَنمو نَقْصٌ في هذا الكَون
لا يَشعُرُ بِهِ الّا القَليلون:
أمٌّ أصبَحَت تُحِبُّكَ أكثَرَ مِن ذي قَبل
أبٌ يمسَحُ بِكفِّهِ لحيَتَهَ البَيضاء
زَوجَةٌ لَم تَشعُر بِرُجولَتِك كما الآن
وأولادٌ..
وآخَرون.
■ ■ ■
يومًا ما
يَومًا ما سَيتذَكَّرُني هذا العَالَم
سَيتذَكَّرُني بِنَدم
حَينَ مَررتُ بِهِ ولَم يَستَوقِفني
سَيتذَكَّرُني لا لأنَّني أحدٌ ما
بَل - تَمامًا - لأنِّي لا أحد.
سَيتذَكَّرُ، حينَئذٍ، كُلَّ "لا أحد" مَرَّ بِه
ولَم يَستَوقفهُ ولو للَحَظات،
مَرُّوا بِصمت، مَرُّوا خِفافًا
كظلالٍ تَحتَ الغمام.
كانَ العَالمُ غَارقًا في ضَجيجِ نَفسِه
فلَم يَأْبَه لِصمْتِهم
ولَم يَحفِل بِمُرورِهم.
لكنَّهُ سَيتذَكَّرُهم ذاتَ يوم
سَيفتَقدُ صَمتَهم ومُرُورَهم العَابِر
ولأنَّهُ لَمْ يَستَوقِفْهم ولَوْ للَحَظات
سَيتذَكَّرُهم
بِمرارةٍ ونَدَم.
* شاعر ومترجم عراقي مقيم في إيطاليا