تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الثالث عشر من نيسان/ أبريل، ذكرى ميلاد المحلّل النفسي الفرنسي جاك لاكان (1901 ــ 1981).
لم يعد اسم المحلّل النفسي الفرنسي، جاك لاكان، الذي تمرّ اليوم ذكرى ميلاده (1901 ــ 1981)، بحاجة إلى كثير من التعريف، كما قد نفعل مع اسمٍ مجهول أو شبه مجهول لدى القرّاء العرب. كما في أماكن أخرى من العالم، يحضر اسم لاكان، عربياً، بمجرّد ما يحضر تاريخ التحليل النفسي، لا سيّما ذاك اللاحق لفرويد (1858 ــ 1939). بل إنّ كثيرين لا يتردّدون اليوم في اعتباره ثاني أبرز الأسماء في هذا التاريخ، بعد الطبيب والمحلّل المولود في فيينا، الذي يعدّ عرّاب التحليل النفسي ومنظّره الأوّل.
لم يسمع لاكان باسم فرويد إلا في الثانية والعشرين من عمره، عام 1923. ولم يكن مسرحُ هذا اللقاء واحدة من المحاضرات التي كان يحضرها كطالب في كلّيّة الطبّ، بل عبر معارفه من المثقّفين والكتّاب الذين بدأ بالتردّد عليهم، أو بمرافقتهم إلى اجتماعات فكرية، أو إلى حلقات قراءة، كما حصل عام 1919 حين التحق بأولى قراءات رواية "عوليس" لجيمس جويس في فرنسا، والتي عقدتها حينها مكتبة "شيكسبير آند كومباني" في العاصمة الفرنسية.
كان الشاب المولود في عائلة باريسية من الطبقة الوسطى، والتي أرسلته للدراسة في مؤسّسات تعليمية كاثوليكية، قد خرج حديثاً من عباءة التقاليد العائلية والدينية، وبدأ حياةً عناصرُها الأساسية القراءة والتعرّف إلى أسماء بارزة في عوالم الفلسفة والأدب والكتابة الشعرية، في عاصمةٍ فرنسية كانت تغلي بالنشاط الإبداعي والفكري. أما على المستوى السياسي، فقد كان، حى هذه المرحلة، أقلّ تقدّميةً، حيث ظلّ يبدي، حتى لسنوات لاحقة، ميولاً نحو أجواء تناصر الحكم الملكي في فرنسا وتطالب بعودته.
تجربة لاكان، في السنوات الأخيرة من دراسته للطبّ، كطبيب مساعد في مصحّ "سانت آن" النفسي في باريس ستشكّل نقلة كبيرة في تجربته، حيث سيبدأ بالخروج من فضاءات الطبّ النفسي الكلينيكية إلى مساءلة خطابية، لغوية وثقافية للاعتلال النفسي. هكذا، ستقوده حالات الذُّهان التي سيقف عليها خلال عمله كطبيب إلى الاستعانة باشتغالات فيرديناند دو سوسور البنيوية حول اللغة، في مسعىً منه لفهم وتحليل حالات الهلوسة والهذيان.
علاقته بالفلسفة وقراءاته لفلاسفة تمتدّ من أفلاطون إلى هايدغر، مروراً بهيغل
خلال هذه الفترة، سيبدأ المحلّل النفسي الفرنسي كتاباته البحثية الأولى، التي تجمع بين عودة إلى فرويد من ناحية، والطب النفسي من ناحية أخرى. لكنّ الجديد في هذه الكتابات، كما سيبدو في أطروحة لنيل درجة الدكتوراه ("عن الذُّهان الشكوكي وعلاقته بالشخصية"، 1932)، هو لا تقليدية هذه العودة إلى فرويد، وكذلك استعانته برؤىً وأسئلة فلسفية لإضاءة أسئلة نفسية أو لمناقشتها. بعض المؤرّخين المختصّين بالتحليل النفسي يرون أن لاكان وضع أساسات مدرسةٍ هي اللاكانية بدءاً من هذه الأطروحة، التي تُظهر سعيه المبكّر إلى الاستفادة من اشتغالات فرويد وتجاوزها في الوقت نفسه.
وإن كانت القراءة اللاكانية لفرويد، والتجديد الذي أدخلته على اشتغالات المحلّل النمساوي، معروفة للمطّلعين على تجربته بشكل عام، فإن علاقته بالفلسفة، وقراءاته لفلاسفة يمتدّون من أفلاطون إلى هايدغر، مروراً بهيغل، ما تزال شبه مغمورة، ليس في إطار اللغة العربية فحسب، بل وحتى في فرنسا.
استعان لاكان بالفلسفة كلّما وضعته ممارسته التحليلية أمام أسئلة مفهومية، وكلما تناول حقل التحليل النفسي بالتنظير، ومهمّة المحلّل، وكذلك عند محاولته الإضاءة على علاقة البُنية النفسية بأسئلة قديمة قِدَم الفلسفة، مثل الحقيقة والرغبة واللغة. هكذا، وجد ضالّته حول موقع المحلّل النفسي في السفسطائيين كما صوّرهم أفلاطون، حيث شبّه المحلّل النفسي بـ"سفسطائيِّ زمنِنا"، مقرّاً في الوقت نفسه بأنّه مكانته تختلف عن مكانة السفسطائي في اليونان القديمة.
وفي تناوله لسؤال الحقيقة، الذي أعطاه مساحةً أساسية في ممارسته وتنظيره، يعود لاكان إلى هايدغر، ليمتح من تعريفه للحقيقة بوصفه كشفاً لما هو محجوب. هنا، مهمّة المحلّل النفسي تكمن في مرافقة الشخص المحلَّل له للكشف عن حقيقة رغبته التي تكتنفها لغته وكلماته بشكلٍ غير واعٍ، مع التسليم، بخلاف الفلاسفة المثاليين، بأن هذا الكشف قد يكون جزئياً، أو قد لا يحدث أبداً، باعتبار أنّ المعنى، ومعنى الحقيقة خصوصاً، لا يحضر كاملاً أو لا يحضر بطريقة تسمح بالقبض عليه بكلّ تفاصيله.
المساحة التي يغيب فيها جزء من المعنى وجزء من الحقيقة تحمل، لدى لاكان، اسم الواقعي. وفي سؤال الواقعي هذا، يفتح المحلّل الفرنسي نقاشاً مع الفلاسفة الذين لم يكفّوا، منذ بداية القرن العشرين وحتى اليوم، عن مساءلة معنى الواقع. لكنّ نقاش لاكان مع الفلاسفة سيذهب مرّة أخرى نحو قراءة جديدة، مختلفة: فالواقعي عند لاكان هو ما لم ينلْ تسميةً أو معنىً داخل اللغة، أي ما لا يمكن الإمساك به بالكلمات والرموز. أطروحةٌ تقلب المعنى الشائع لمفهوم الواقع والواقعي، حتى لدى الفلاسفة.