تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الثلاثون من أيلول/ سبتمبر، ذكرى ميلاد الشاعر المتصوّف جلال الدين الرومي (1207 - 1273).
سعى جلال الدين الرومي، الذي تمرّ اليوم الأربعاء ذكرى ميلاده، إلى الانتقال بـ التصوّف إلى مستوى اللغة والفكر، حيث الحقيقة لا يصل إليها الإنسان في عالم اليقظة من خلال الإيمان باللايقين ونسبية العقل، لذلك من الأجدى له البحث عنها في العالم الآخر في قراءة عرفانية للعالم.
قدّم الشاعر المتصوّف (1207 - 1273) رؤيته في مرحلة شهدت غزو المغول للعالم الإسلامي، ما تسبّب في هجرة عائلته من مسقط رأسه؛ مدينة بلخ التي تقع داخل حدود أفغانستان اليوم، متجهاً إلى نيسابور ثم بغداد، ومنها إلى مكّة المكرم لأداء الحج، ليقصد بعدها بلاد الشام، ثم قونية التي كانت إحدى حواضر الدولة السلجوقية التركية.
تنقّل الرومي بين هذه البلدان بوصفه فقيهاً أشعرياً إذ خلف والده بهاء ولد (رحل عام 1231) في مجلس علمه، وكان واعظًا يفتي في شؤون الدين، وله من التلاميذ والمريدين الكثير، ولم يكن بعد قد أصبح شاعراً ولم يؤسس بعد طريقته الخاصة في التصوف وهي "المولوية"، إلى أن التقى شمس الدين التبريزي.
تأخر وصول آثار جلال الدين الرومي إلى الثقافة العربية المعاصرة
في كتابه "بحثاً عن الشمس: من قونية إلى دمشق"، يقول الباحث الإيراني عطاء الدين تدين: "كانت الساعات الأولى ليومِ سبت مشمس، في السادس والعشرين من جمادى الثاني عام 642 هـ، كان شخصان قلقان يمران بسوق قونية. موجتان عظيمتان، بحران زاخران، وعالمان عجيبان يمضي أحدهما نحو الآخر". يضيف عطاء الدين أنه وفي سوق قونية وقف شمس التبريزي الزاهد المتشرد ذو التركيب العجيب من العشق والصفاء، وقد ضرب بيده على بغل مولانا جلال الدين، في لحظة يقول عنها: "كأنما توقفت الأرض فيها عن الدوران".
هكذا التقى الرجلان أوّل مرة، لتتنشأ بينهما علاقة معقدة وملغزة بين شيخ ومريد لا تزال الأسرار تحيطها، بل إن الفرضيات حولها تتعدّد، فالغموض يكتنف كلّ المعلومات المتواترة عن لقائهما، إذ تشير بعض الروايات إلى أن علاقتهما امتدّت لأربعين يوماً أو ستين يوماً، وآخرون قالوا لعام أو اثنين، وكذلك اختُلف حول اختفاء التبريزي، إذ يُعتقد أن تلامذة الرومي هم الذين أبعدوه، أو حتى قتلوه، وبعضهم ألمح إلى أن ابن الرومي نفسه هو من قتله، وتلفت إحدى االفرضيات الراجحة أيضاً إلى أن التبريزي لم يشاهده أحد من معاصري الرومي لا حين أتى ولا حين رحل أو قُتل كما يقال.
بغض النظر عن وجوده أو تخيّله، فإن لقاء الشيخين شكّل نقطة تحوّل كبرى دفعت بالرومي إلى اعتزال الفقه، لينشئ بعدها الطريقة الصوفية المولوية، ويقضي ليالي في السماع والدوران، وانصرف كلياً إلى الحياة الروحانية، وكتابة الشعر بالفارسية وهو في الأربعين من عمره رغم أنه لم يقرضه من قبل، وسيعبّر من خلال أشعاره عن الوجود الظاهر الذي يتراءى علامات وأشكالاً وظلالاً واستعارات ومظاهر لمعنى واحد هو الله.
تأخّر وصول آثار جلال الدين الرومي إلى الثقافة العربية المعاصرة، رغم ذكره في كتب التراجم في التراث الإسلامية، لكن منذ عام 1920 سيبدأ الاهتمام به على نطاق واسع، بعد أن أمضى المستشرق البريطاني رينولد نيكلسون قرابة خمسة وعشرين عاماً في التنقيب في أعماله التي أصدرها في أكثر من كتاب، حيث قام بعدها عبد الوهاب عزام بترجمة مختارات للرومي، وتتالت بعدها الترجمات والشروحات والمؤلّفات.
في واحدة من رباعياته، يكتب جلال الدين الرومي: "لا حب أفضل من حب بدون حبيب/ ليس أصلح من عمل صالح دون غاية/ لو يمكنك أن تتخلى عن السوء والحذق فيه/ فتلك هي الخدعة الماكرة!".