تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، 25 كانون الأوّل/ ديسمبر، ذكرى ميلاد الممثّلة التونسية فاطمة بن سعيدان (1949).
قلّما تظهر في وسائل الإعلام، مقارنةً بمعظم المشتغلين بالفنّ. لعلّه "تباعُدٌ" مرّرت من خلاله الممثّلة التونسية فاطمة بن سعيدان موقفها تجاه المادّة التي تضخّها الميديا في عقول الناس. هكذا تترك لنا أن نقوّل غيابها برسائل ضمنية كثيرة؛ كأنما تقول: يُمكنكم العودة إلى الأدوار التي أدّيتُها وستجدون ما أريد قوله؛ لقد قلتُ كل شيء تقريباً هناك، على الخشبة أو أمام الكاميرا؛ لكن أعلم أن كثيراً منكم لا يشاهد شيئاً.
غياب بن سعيدان عن الإعلام يُقابله حضورٌ كثيف على الخشبة. باتت تجربتها مفلتتةً من الإحصاء مع نصف قرن من ممارسة الفنّ. وأبعد من ذلك، تجدها حاضرة في الصفوف الأمامية تُساند قضايا الحرّيات والعدالة. كما تجدها حاضرة في فعاليات الثقافة المتنوّعة، أمسيات أدبية ومعارض تشكيلية وغير ذلك، ونادراً ما يلتفت أهل قطاع ثقافي إلى ما يحدث في أماكن أخرى.
في كلّ ذلك، تحضر فاطمة بن سعيدان كشخصية مسرحية حيّة بيننا، يمكن لمسها والحديث إليها. وتحضر كأيّة مواطنة دون بريق الشهرة وبتواضع العارفة بالثقافة والحياة. حتى على الخشبة هي تحضر بهذه الحمولات المعرفية التي تسرّبها عبر الشخصيات التي تؤدّيها.
لعلّ ذلك هو السرّ وراء الشعور بحضورها القويّ؛ إنه الوَقع الذي يتركه مرور بن سعيدان على الخشبة أو في الحياة. هناك عمق تجعله مرئياً ومكثّفاً في لحظات، تجعل له نكهة يصعب أن تفارقك كمشاهد كنت على مسافة أمتار منها. تتحوّل تلك المساحات الزمنية لأدوارها - ولو كانت قصيرة - إلى أعمال فنية مستقلة.
في مسرحية "بلاتو" تحاكي كلّ الطبقة السياسية عبر شخصية واحدة، وقبل دقائق - وفي نفس المسرحية - تجسّد امرأة فقيرة عابرة. تجالس جليلة بكّار في "الخوف" ولا يمكننا أن نفصل حديث الشخصيتين المسرحيتين عن حديث الشخصيتين الواقعيتين وهما تتناولان تحوّلات تونس برمّتها. حوار يفتح على تجربة مطوّلة مع مسرح الفاضل الجعايبي ("فاميليا"، "جنون"، "يحيى يعيش"...). وفي السينما تحضر أحياناً في لقطات قليلة ("عزيّر روحو"، "عصفور سطح"، "زيزو"...) لكن قد لا يبقى لنا ونحن نغادر القاعة إلّا وقع تلك الشخصية التي أدّتها.
تبدو تلك العناية بأداء الشخصيات على المسرح فرعاً من عناية ببناء الشخصية الذاتية. تجسّد فاطمة بن سعيدان العلاقة العضوية بين المسرح والواقع؛ ينبع الفنّ من هموم الحياة اليومية، ويُصقَل بتوسيع فُرص الفهم فكرياً وفرض ممارسة الحرّية على الواقع.
هي تستطيع أن تنقل ذلك عبر حديث عابر إذا اعترضتك في الشارع ماشيةً، وقد تجد أثرها في آخرين عبرت في حياتهم: لدى مسرحيين شبّان أو حتى مشاهدين غير مواظبين.