تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الخامس والعشرون من حزيران/ يونيو، ذكرى ميلاد الكاتب والروائي الإنكليزي كولن ويلسون (1931 – 2013).
منذ نهاية أيار/ مايو 1956، توالى نشر مقالات في الصحافة البريطانية تُقرِّظ بكتاب كولن ويلسون الأول، الذي حمل عنوان "اللامنتمي" (The Outsider)، في احتفاء بكاتب لم يبلغ الرابعة والعشرين بعد، يتحدث عن عزلة الشعراء والفلاسفة عن مجتمعاتهم، من خلال دراسة تستند إلى مرجعيات أدبية وفلسفية ونفسية غنية ومتعدّدة.
ولمّا كان الكاتب والروائي الإنكليزي (1931 – 2013)، الذي تحلّ اليوم الإثنين ذكرى ميلاده، يعيش حياة فقيرة وتعيسة، بعد أن ترك المدرسة باكراً وامتهن عشرات المهن التي لم يُفلح فيها، فقد اضطرّ حينها للاستئذان من جيرانه في الطابق السفلي لاستخدام هاتف منزلهم للردّ على مكالمات من صحف ومجلّات تطلب إجراء مقابلات معه.
وفجأةً فقدَ ويلسون وحدته التي عاشها طويلاً بسبب كتاب يتحدّث عن معضلة الحرية بمعناها الفلسفي العميق، حيث اللامنتمي مصابٌ بكآبة شديدة ويسيطر عليه الشعور بضرورة قول الحقيقة كما هي، ومواجهة البورجوازيين بأقذع العبارات، غير مكترث بعدم تقدير هذه الطبقة لمقولاته، ما يعزز لديه الإحساس بالاغتراب وعدم الانتماء لكلّ ما يحيط به، وصولاً إلى ذلك الألم العميق بسبب وعيه وقلقله.
ظلّ الفشلُ تقييمَ النقّاد الدائم الذي ظلّ يلاحق الكاتب الإنكليزي حتى رحيله
هبطت الشهرة فجأة، وأصبح ولسون ضيف محطّات التلفزة، وتظهر صورته على صفحات الجرائد للحديث في كل موضوع وكل قضية تشغل بال الناس، حتى أن ناشره طلب منه الخروج من لندن ليتسنى له التخلّص من الضوضاء التي أحاطت به، وليتمكّن من تأليف كتاب ثانٍ سيحمل عنوان "الدين والتمرّد"، وسيعرف نقداً قاسياً جدّاً عند صدوره في العام التالي.
بدا صاحب "ما بعد اللامنتمي" مرتاحاً حينها من هجوم الصحافة عليه، رغبةً منه بالتخلّص من الأضواء التي حاصرته حوالي ثمانية عشر شهراً متواصلاً، إلا أن محاولاته توزّعت في اتجاهات عدّة للبحث عن موصوعات تنال نفس الاهتمام الذي حظي به "اللامنتمي"، مثل اختفاء البطل في الأدب الحديث، والبحث عن بديل للإيمان التقليدي، وهزيمة الإنسان، وكلّها مشتّقات فكرية من كتابه الأول، بحسب ما يشير ويلسون في أكثر من حديث صحافي.
ظلّ الفشلُ تقييمَ النقّاد الدائم الذي لاحق ويلسون حتى رحيله، وانهالت عليه التهم التي تصفه بالزيف والادّعاء المعرفي والتسطيح، مقابل رواج معظم كتبه ذات الطابع الفكري التي بيعت عشرات، بل مئات آلاف النسخ منها، مثلما هو الحال مع "عصر الهزيمة" (1959)، و"قوة الحلم" (1961)، و"أصول الدافع الجنسي" (1963)، وكذلك رواياته، مثل "طقوس في الظلام" (1960)، و"ضياع في سوهو" (1961)، و"القفص الزجاجي" (1966)، و"طفيليات العقل" (1967) وغيرها.
في مقال له، يلفت الناقد البريطاني تيري إيغلتون إلى أن كتاب "اللامنتمي" هو عبارة عن "كيس خردة من العدمية المعاصرة"، موضحاً أن معظم الشخصيات التي تعامل معها ويلسون في الكتاب لديها القليل من القواسم المشتركة التي تمّ ربطها ببعضها بضعاً على نحو سخيف لإثبات قوله بأن المبدع يشعر بالغربة عن المجتمع وقيَمه، وأن ما يسوقه الكتاب هو مجرّد تعبير رومانسي خالص يتوقع كتابته من قبل شخص كئيب تم حبسه لبضعة أشهر في مكتبة لبيع الكتب المستعملة.
ترك "اللامنتمي" أثره في العديد من ثقافات العالم، ومنها العربية، حيث تسلّلت أفكاره بين قسمٍ من المثقفين بعد ترجمة الكتاب، خاصة بعد هزيمة حزيران/ يونيو عام 1967، وهي الفترة التي سادت فيها الفلسفة الوجودية بنسخها السارترية والكاموية أيضاً. لكن الأمر لم يتجاوز نطاق تبسيط الفلسفة في بعدها الشعبي، أو تناول الأفكار العميقة بطريقة معقولة في زمنها، وبدأ تأثير "اللامنتمي" في التراجع مع بقية كتب ويلسون الأخرى، لتصبح مجرد كتب لتبسيط الفلسفة لا أكثر.