تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم الثامن عشر من كانون الثاني، ذكرى ميلاد الباحث والمترجم المصري محمد لطفي جمعة (1886 – 1953).
في كتابه "تاريخ فلاسفة الإسلام في المشرق والمغرب" الذي أعاد إصداره "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" عن سلسلة "طي الذاكرة" عام 2014، أشار محمد لطفي جمعة الذي تحلّ اليوم الثلاثاء ذكرى ميلاده إلى أن هناك ما يشبه التوافق على أن الفلسفة العربية– الإسلامية بدأت تتضح معالمها في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي). وكل بحث في هذا الحقل عاد إلى الكندي (يعقوب بن إسحق)، معتبراً أنه المؤسس الحقيقي للفلسفة الإسلامية، ومن بعد الكندي تبدأ المراجعة التاريخية لتطور المنظومة الفلسفية وصولاً إلى ابن رشد وأحياناً ابن عربي وابن خلدون.
وأوضح الباحث والمترجم المصري (1886 – 1953) أنه لا شكّ أن ثمة خطوات تمهيدية كانت قبل الكندي، أسست منهجياً الطريق المعرفي الذي ساهم في ظهور الفلسفة كمنظومة مستقلة في سياق معطيات عمرانية مشتركة تراكمت تاريخياً في القرنين الهجرييْن الأول والثاني.
كيف حصل الأمر؟ يرى جمعة أن الإجابة تحتاج إلى قراءة ثلاثة جوانب أدّت دورها في صوغ الهوية الإسلامية التي لا تزال ظاهرة في شخصيتها العامة في عصرنا؛ الجانب الأول هو الدولة بوصفها قوة توحيدية تمتلك سلطة تشكل مظلة للجماعة وتؤدي دور الراعي الذي يوفر الإمكانات والمعونات والمساعدات، وتشجّع "النخبة" على أداء مهمة وظيفية تلبي احتياجات التطور وترد على أسئلة العامة بشأن العقيدة وما طرأ عليها منذ لحظة ظهورها.
أشار إلى خطوات تمهيدية قبل الكندي ساهمت في تأسيس الفلسفة العربية الإسلامية
والجانب الثاني، بحسب الكتاب، هو علاقات القرابة (آباء وأبناء وأحفاد وأولاد عم وخال ومصاهرات وزيجات) وغيرها من منظومات تقليدية وعصبية كانت تمثل آنذاك هيئة متوارثة تعطي شرعية لجميع الطامحين إلى شرح العقيدة وتوضيح معالمها من خلال النقل والتفسير استناداً إلى مصادر موثّقة مأخوذة مباشرة أو بالواسطة من أحاديث الرسول وسيرته.
أما "النخبة" في الجانب الثالث، أي تلك الكتلة المختارة من الأذكياء والمؤلفة من شريحة غير متجانسة من المفكرين، فكان لها شأنها في تطريز شبكة من المفاهيم (المفاتيح) التي حاولت تأويل العقيدة بابتداع آليات منهجية تستطيع تقريب أجزاء الصورة وتوحيدها في إطار مشترك أدى إلى تشييد وعي جمعي يتمتع بقدر معقول من التماسك.
ويتناول الكتاب أبرز ملامح فلسفة كلّ من الكندي والفارابي وابن سينا والغزالي وابن باجه وابن طفيل وابن رشد وابن خلدون، وإخوان الصفا، وابن الهيثم، ومحيي الدين بن عربي، وابن مسكويه، من خلال استعراض أهمّ مؤلفاتهم ومساجلاتهم في ما بينهم وانتقاداتهم لبعضهم بعضاً، وتبيان أثر ابن رشد وابن خلدون في الفلسفة الأوروبية.
وُلد جمعة في حيّ كوم الدكة بمدينة الإسكندرية لوالدين من الطبقة الوسطى وهو شقيق سيد درويش بالرضاعة، انتقلت أسرته إلى مدينة طنطا حيث التحق بمدرسة الأقباط بها ثم انتقل إلى المدرسة الأميرية ونال منها الشهادة الابتدائية ثم انتقل إلى القاهرة ليلتحق بالمدرسة الخديوية الثانوية حيث أنهى تعليمه الثانوي.
في عام 1903، سافر إلى بيروت حيث درس الفلسفة في الكلية الأميركية، ثم عاد إلى مصر لينال إجازة "مدرسة المعلمين" ثمّ التحق بمدرسة الحقوق الخديوية إلا أنه فصل منها إثر إلقائه خطبة في الذكرى الأربعين لرحيل مصطفى كامل، فسافر إلى فرنسا وحصل من "جامعة ليون" على شهادة في الحقوق سنة 1910، وبعدما نال إجازة المحاماة عاد إلى فرنسا ثانيةً ونال الدكتوراه في الحقوق.
عمل جمعة محرراً في "جريدة الظاهر" المملوكة عام 1905، وانتقد في مقالاته استسلام الخديوي للاستعمار البريطاني، ففصل من الجريدة وانتقل إلى "جريدة اللواء" وحين أنشأ مصطفى كامل جريدة "إيجبشن ستاندرد" عمل فيها محرراً، وكتب مقالاته لاحقاً في عدد من الصحف والمجلات المصرية والعربية.
وضع العديد من المؤلفات منها "تاريخ فلاسفة الإسلام"، و"محاضرات في تاريخ المبادئ الاقتصادية والنظامات الأوروبية"، و"حياة الشرق: دُوله وشعوبه وماضيه وحاضره"، و"حكم نابليون"، و"ثورة الإسلام وبطل الأنبياء: أبو القاسم محمد بن عبد الله"، و"الفلاكة والبوهيمية في الأدب القديم والحديث"، و"قضايا ومشكلات اجتماعية في مصر المعاصرة"، و"الحكمة المشرقية"، و"مع الكتب في سبيل المعرفة"، و"قطرة من مداد لأعلام المتعاصرين والأنداد".