ذكريات حلمي التوني البيروتية.. لقاء أخير

17 أكتوبر 2024
حلمي التوني (1934 - 2024)
+ الخط -

انقطع فجأة الاتصال بالهاتف مع الفنّان المصري حلمي التوني، خلال حوار أجريته معه بعد عودتي من لبنان، محاولاً استعادة تاريخ الصحافيّين المصريّين في عالم صحافة بيروت سنوات السبعينيات والثمانينيات. عاد بعدها بدقائق ليتّصل، ويعتذر بنفاد شحن طاقة هاتفه الجوال. لكنّه أخبرني بأنه مُتعَب، وذاهبٌ في اليوم التالي إلى مستشفى "الصفا" بالمهندسين لإجراء جراحة ثالثة في العمود الفقري. أبدى شكوكاً في نجاحها، إلّا أنه وعد باستئناف الحوار مع لقاء مُطوّل لاحقاً، وبعد أن يتعافى من العملية.

وكان هذا الحوار الهاتفي ظُهر يوم الجمعة، الثاني عشر من آذار/ مارس الماضي. وأخال أنّ ما قاله نادر وغير منشور من قبل. بعد ثلاثة أيام قمت بزيارته في المستشفى، وهو على سرير النقاهة من العملية. ووجدتُ أنّ اللياقة تقتضى تأجيل استكمال ما بدأناه عن تجربته في بيروت. ومع هذا قضيت معه نحو الساعتين بمفردنا، طاف خلالها بموضوعات وذكريات شتّى. 

وحتى رحيله في السابع من أيلول/ سبتمبر الماضي، اتصلتُ به هاتفياً غير مرّة لعلّنا نستكمل ما بدأنا، لكن صحّته ظلّت تتدهور على نحو لم يسمح باللقاء. وأظنّه أصبح زاهداً في التواصل والكلام مع الناس. ولاحقاً عرفتُ من مُرافقه أنه توقّف عن الرسم بعدما خرج من المستشفى. ونادراً ما استطاع الاستئذان من الألم كي يرسم، سوى "اسكتشات" بالرصاص، متخلّياً عن الألوان، تلك التي طالما أبهجتنا.


ثلاثة عشر عاماً في بيروت 

الشائع والمنشور أن التوني أقام في لبنان ثلاث سنوات فقط، كما تفيد "ويكيبيديا". إلا أنه أجاب عندما سألت عن كيف استقر في بيروت وعمل بصحافتها؟ بأن هذه الإقامة استمرّت لنحو ثلاث عشرة سنة اعتباراً من العام 1973. مرّ سريعاً بملابسات منعه من العمل، وحرمانه من الدخول إلى مقرّه في "دار الهلال"، إثر قرار لجنة النظام بحزب الاتحاد الاشتراكي في شباط/ فبراير 1973 إسقاط عضوية أربعة وستين صحافياً من التنظيم السياسي الوحيد حينها، وبالتالي فقدان شرط لازم لعضوية نقابة الصحافيين المصريين وممارسة المهنة.

قال: "كنتُ في مصر ممنوعاً من العمل الصحافي، فقلتُ أعمل معارض فنّية. ولكنّ كلّ الغاليريهات رفضت. واتّضح أنهم أغلقوا أمامي أبواب أماكن العرض الخاصة وقصور الثقافة التابعة للدولة معاً. وهذا باستثناء غاليري يتيم غير معروف في مدينة أسيوط بالصعيد، عرف معرضاً وحيداً لأعمالي". وتقع أسيوط، التي تُعدّ بمثابة عاصمة صعيد مصر، على بُعد نحو 400 كليومتر جنوبي القاهرة.

اتهمه نظام السادات بالشيوعية لكنّه كان متمرّداً بلا قيود

وجاء قرار الحرمان من العمل في عهد أنور السادات على خلفية تضامن مجموعة من المثقّفين مع حركة طلاب الجامعات المنادية بتحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي بالقوة والسلاح دون مزيد انتظار، وبحرية التعبير والديمقراطية ومكافحة الفساد. واتّهم النظام وصحافته المشمولين بقرار إسقاط عضوية حزب الاتحاد الاشتراكي بالشيوعية، وإن كان التوني لم ينضم إلى أي من تنظيماتها، وظل يعتبر نفسه "ثائراً متمرّداً" كما يصف نفسه، يسارياً بدون التزام تنظيمي أو قيود عقائدية.
 

بيروت صيف 1973

تذكّر التوني أيام وصوله إلى بيروت صيف 1973، وأكّد قائلاً: "السفر جاء بعدما سدّوا كلّ السُّبل في وجهي". وأوضح أن الوصول إلى بيروت كان بدون تلقّي عرض عمل محدّد مسبق، وإن وُجد عند غير صديق لبناني التشجيع بالكلمات والتمنّيات، وبعض الوعود الشفوية. واستخلص من مثل هذه العروض: "وجدتُ نفسي معروفاً في لبنان قبل أن أُقرّر الذهاب إليه".

وتابع: "بدأت الرحلة بالإقامة في 'فندق أطلس' على مقربة من منطقة الحمرا. وسرعان ما جاءني في الفندق ماجد طعمة السوري الأصل القومي العربي التوجّه، وقال إنه قادم مباشرة من 'النادي الثقافي العربي'، الذي كان يشرع في تنظيم معرض للكتاب العربي في بيروت، وطلب منّي تصميم رمزين/ شعارين بصريّين للنادي والمعرض".

شعاره لـ"معرض بيروت للكتاب" ما زال معتمداً إلى اليوم

وأضاف: "كان هذا هو أول عرض عمل جدّي فعلي أتلقّاه بعد الوصول إلى بيروت. وطلبت الألوان وألواح الكارتون وفُرَشاً (جمع فرشاة)، وصمّمتُ الشعارين". وسكت برهة، وأضاف: "ما زال شعاري لمعرض بيروت للكتاب حيّاً إلى اليوم".

في أرشيف جريدة السفير بعدد الخامس والعشرين من أيار/ مايو 1975 خبرٌ يفيد بأن معرض لوحات التوني الأول في بيروت استضافه أيضاً مقرّ "النادي الثقافي العربي".


مع عبد الوهاب الكيالي

بعد "النادي الثقافي العربي"، جاء عمل مستدام نسبياً مع "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت، وعنه قال: "طلب منّي مؤسسها المؤرّخ الفلسطيني عبد الوهاب الكيالي أن أعمل مشرفاً فنياً على إصداراتها، ووافقت على الفور". وكان  الكيالي قد أنشأ المؤسسة عام 1969، أي بعد هزيمة حزيران/ يونيو بنحو عامين فقط. واتّخذت من بيروت مقرّاً لها، وحيث كانت صناعة نشر الكتاب العربي في قمّة انتعاشها، فضلاً عن هامش الحرّيات النسبي المتاح مقارنة ببقية الدول العربية.
 

تجربة "السفير" والحمامة البرتقالية

كان على الفنان حلمي التوني الانتظار إلى آذار/ مارس 1974 ليخطو الخطوة الأهمّ في "تجربته البيروتية"، حين عمل مع جريدة السفير حال انطلاقها، وأصبح واحداً من أركانها ودعائمها. قال: "تعرّفت إلى الصحافي اللبناني طلال سلمان ناشر السفير نحو العام 1970 خلال زيارته للقاهرة، ونشأت بيننا صداقة تقوم على التقاء الأفكار والمبادئ. وفي ربيع 1974 أبلغني أنه يُعدّ لإصدار الجريدة، والوقت يضغط فيما يبحث عن شعار بصري تتميّز به".

وأضاف: "دعاني للتفكير في شيء مختلف متميّز، وبعدما عرض أمامي تصميم شعار للفنان المصري المحترف علي جمال الدين طاهر المقيم في بيروت منذ عقود ولديه مكتب للأعمال الفنّية فيها، وكان هذا التصميم عبارة عن برنيطة وقفّاز، فكرتُ من جانبي ورسمتُ حمامة، باعتبارها سفير الناس أيام زمان. رسمتُها على هيئة دائرة، وحذفت منها أجزاء، وأعطيتها اللون البرتقالي. وهذا لم يكن مألوفاً في صُحف تلك الأيام، حيث كان استخدام الأزرق والأحمر والأسود لا غير. ونجح هذا الشعار جدّاً، وأسعد طلال".

تصميمات للتوني مُعلّقة إلى اليوم عند مدخل مبنى "جريدة السفير" في بيروت
تصميمات للتوني مُعلّقة إلى اليوم عند مدخل مبنى "جريدة السفير" في بيروت

في مقال بالعدد التذكاري بمناسبة احتجاب وتوقّف "السفير"، الصادر في الرابع من كانون الثاني/ يناير 2017، كتب طلال سلمان تحت عنوان "حلمي التوني جاءنا على جناح حمامة": "وجّهتُ دعوة عاجلة إلى الصديق الفنان المُبدع حلمي التوني الذي كان يتولّى إخراج مطبوعات 'دار الهلال' جميعاً... وبعد طول انتظار، وعشية الصدور، هلَّ علينا حلمي التوني وفي يده لُفافة من ورق، داخلها لفافة، وداخل اللفافة كتيّب بالتعليمات الواجب اعتمادها في الإخراج. أما اللفافة الثانية فكانت تحمل رسم الحمامة التي اعتمدناها شعاراً لـ'السفير'، بعدما استمعنا إلى فلسفتها: ألم تسمعوا بالحمام الزاجل الذي كان يصل بين المتباعدين؟ ثم إن لونها البرتقالي يرمز إلى البرتقال في يافا وكلّ فلسطين، ليتطابق مع شعاركم: صوت الذين لا صوت لهم ـ وجريدة لبنان في الوطن العربي ـ جريدة الوطن العربي في لبنان".

تصميمه الأول في بيروت كان لمصلحة النادي الثقافي العربي

في الحوار معه، قال التوني: "عرض عليّ طلال سلمان أن أكون مُشرفاً فنياً على مجموعة من الشباب اللبنانيين، واستمر هذا الإشراف لنحو خمس سنوات". وأضاف: "أنا من وضع الماكيت الأول لـ'السفير'، وكنتُ أسهر كلّ يوم حتى الثالثة أو الرابعة صباحاً لأُشرف على تنفيذه. هكذا كانت صحف بيروت تظلّ تحت الإعداد وتُلاحق الأخبار لتدخُل المطابع بين الثانية عشرة ليلاً والفجر. وأنا كنت أسهر كلّ ليلة في 'السفير'، وأعود على قدمَي من الصحيفة إلى سكني في الروشة. وحتى بعدما عدتُ إلى مصر لم تنقطع علاقتي ببيروت و'السفير'، وكلّما تردّدتُ على لبنان صيفاً، واستمرّت علاقتي مع طلال حتى رحيله، في آب/ أغسطس 2023".

وعن ناشر السفير يعود التوني، فيقول: "عرفت طلال منذ كان يسمّي نفسه أجيراً عند الرأسمالية الصحافية. كان يعمل في جريدة 'الأيام' لصاحبها وناشرها وفيق الطيبي".

واللافت أنّ طلال سلمان في كتاب "كتابة على جدار الصحافة" روى ذكرياته المريرة عن خطواته الأولى في "الأيام" ومع الطيبي، دون أن يصرح لا باسم الجريدة أو باسم الرجل. والمعروف أن الطيبي (1925 ـ 1981) انتُخب نقيباً لمحرّري الصحافة اللبنانية خلال عقدي الخمسينيات والستينيات، وكذا أميناً عاماً لاتحاد الصحافيين العرب.

 

مع ناجي العلي

خلال تجربة "السفير"، تعرّف التوني إلى فنّان الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي. فجأة تذكّره خلال حوارنا، وكأنّه أمرٌ ألحّ ليفرض نفسه، بدون سؤال عمّن تعرف بهم هناك. قال: "تعرّفتُ إلى ناجي العلي وأنا أعمل في 'السفير'. ناجي كان يزورني في المنزل دائماً. ولما شرع في الزواج طلب منّي قضاء شهر العسل في مصر، وحجزت للعروسين في 'فندق البرج' أمام حديقة الأندلس". وأضاف: "كان هذا قبل أن ينتقل ناجي من 'السفير' إلى 'جريدة القبس' بالكويت، ثم لندن".

 
بين صحافة القاهرة وبيروت

سألته عن الفارق بين الصحافي المصري واللبناني، فأجاب: "هو الفارق نفسه بين المصري واللبناني في المهن كلّها. عندما اشتغلت مشرفاً فنّياً وفنّاناً في بيروت قال لي أصدقائي اللبنانيون: لماذا لا تفتح مكتباً؟ وعند اللبنانيّين يبدأ البزنس الخاص بعد أن تبدأ العمل بقليل. وكنت أقول لهم إننا في مصر محترفون، وليست لنا علاقة بالبزنس، ولا نفتح مكاتب صحافة أو تصميمات فنّية". وأضاف: "الحقيقة، أنا عشت طوال حياتي في بيروت أتلقّى تحريضاً تلو الآخر على أن أفتح مكتباً كي أصبح 'مُعلّماً'. لكنني فخور بأنني 'صنايعي' إلى اليوم، وحتى النهاية".

وعدتُ لأسأل عن سرّ تقدم الصحافة اللبنانية على محيطها العربي، وبخاصة تلك الورقية التي كانت، فأجاب بأنه انفتاح لبنان على فرنسا والغرب. قال: "سرّ التقدّم الفنّي للصحافة اللبنانية على مستويات الإخراج والتنفيذ والتحرير هو الانفتاح على الغرب وبخاصة المدرسة الفرنسية في الصحافة".

 

* كاتب وصحافي مصري

آداب وفنون
التحديثات الحية

 

المساهمون