كان أحمد جمال في الثالثة من عمره عندما لمس مفاتيح البيانو للمرّة الأولى. حدث ذلك في بيت عائلته في بيتسبورغ بولاية بنسيلفانيا الأميركية. كان عمّه لورانس يدندن، في صالون البيت، على بيانو الأم. وفي لحظةٍ ما يُمازح العمُّ الطفلَ الصغير ويسأله إن كان قويّاً بما يكفي ليقلّده. هكذا، يأتي الطفل، ويُعيد عزف الجُملة الموسيقية نفسها التي عزفها العمّ للتوّ، من دون نقصٍ أو زيادة.
تُشبه هذه القصّة ــ التي يرويها الموسيقي الأميركي في كثير من لقاءاته الصحافية، ويُذكّر بها في سيرته الشخصية على موقعه الإلكتروني الرسمي ــ الحكايات التي تُرافق ولادة الأساطير. لكنّ السنوات اللاحقة من عُمر الفنان ستجعلنا نصدّقها، خصوصاً وأنه تحوّل مع الوقت إلى أحد أساطير البيانو والجاز.
أمس الأحد، رحل أحمد جمال في ماساتشوستس، بولاية نيو إنغلاند، عن اثنين وتسعين عاماً، بحسب ما أعلن للصحافة مُنتِجُه ومدير أعماله سايدو باري، لتنطفئ بذلك واحدةٌ من منارات الجاز في بلاده، بل واحدةٌ من أكثر هذه المنارات عُمراً، إذا ما عرفنا أنه بدأ يكسب رزقه من عزف البيانو في حانات وملاهي مدينته بيتسبورغ، وهو ما يزال دون السابعة عشرة.
وُلد فريدريك راسل جونز (وهو اسمه الحقيقي قبل تحوّله إلى الاسلام عام 1952) عام 1930 في بيتسبورغ، ضمن عائلة فقيرةِ الحال، شأنه في ذلك شأن العديد من رموز الجاز الأميركي. بدأ يتلقّى دروساً احترافية في العزف على البيانو وهو في السابعة، وكان في الحادية عشرة من العُمر قادراً على عزف أعمال لـ فرانز ليست، قبل أن يُسَجَّل اسمه في نقابة الموسيقيين الأميركيين وهو في الرابعة عشرة، كما يقول في واحدٍ من حواراته.
وفي السابعة عشرة من عُمره، إذاً، راح العازف الشاب يلعب على آلته في حفلاتٍ بمدينته، إلى جانب مغنّياتٍ ومغنّين منفردين، أو فِرَق معروفة، مثل تلك التي كان يقودها عازف الترومبيت جورج هادسُن، التي استطاع بفضل العمل معها تحسين مهاراته في العزف، قبل أن ينفصل عنها بعد عامين، في 1949، ليؤسّس رباعياً موسيقياً (حمل اسم "الأوتار الأربعة") لن يدوم طويلاً، وهو ما سيدعوه إلى مغادرة بيتسبورغ نحو شيكاغو، بحثاً عن مسارات ولقاءات فنّية أُخرى.
بعد بداياتٍ صعبة هناك، عمل خلالها في مِهَن مُتعبة (كعتّال، أو كعامل نظافة)، سيستطيع الفنان الشاب دخول المشهد الموسيقي في المدينة التي كانت من أبرز عواصم الجاز في بلاده، أوّلاً كعازف منفرد، ومن ثمّ كقائد لثلاثيّ ("الأوتار الثلاثة") ضمّ، إلى جانبه، كلّاً من راي كراوفورد على الغيتار وإدي كالهون على البيس. مجموعةٌ سيُدخل عليها جمال العديد من التعديلات في السنوات اللاحقة، مُستبدلاً الغيتار بإيقاعات الدرامز، والغيتار بالغيتار الإلكتروني.
أصدر الراحل، بين مطلع الخمسينيات ونهايتها، أكثر من عشرة ألبومات ساهمت في إخراج اسمه من عوالم الهواة إلى دائرة أوسع من احترافيي الجاز وأسمائه الجديدة، وهو ما تُوِّج مع ألبومه الأبرز في ذلك الوقت: "أحمد جمال في فندق بيرشينغ: لكنْ ليس من أجلي" (1958)، الذي بيعَت منه أكثر من مليون نسخة بحسب إحصاء لـ"الصندوق الوطني للفنون" عام 1994.
لكنّ هذا النجاح لن يفتح كلّ الأبواب أمام العازف، الذي سيواجه في نهاية الستّينيات أزمةً اقتصادية ونفسية سيُعلن معها إنهاكه الكبير، "ليس من الموسيقى بحدّ ذاتها، بل من اقتصادها: السفر من أجل الحفلات، والعمل على ترويج الألبومات"، كما سيقول لاحقاً، خصوصاً وأنه كان يدير أيضاً، خلال تلك الفترة، شركة إنتاج خاصّة به.
هذه الأزمة ستشكّل منعطفاً في مساره، حيث ستدفعه للتركيز أكثر على همّه الأوّل وموهبته الأولى: العزف؛ وهو ما سيقوم به بلا توقّف حتى أشهر قبل رحيله، مُصدراً عدداً من أبرز الألبومات في سِجلّ الجاز الأميركي، وتاركاً بصمةً فريدة إلى جانب أسماء كتب معها تاريخ الجاز، مثل نات كينغ كول، ولويس أرمسترونغ، وبيلي هوليداي، وديوك إلينغتون، وإيلا فيتزجيرالد، وبني غودمان، وغيرهم.
كان أحمد جمال من قلائل العازفين الذين لم يكن ثمّة فرقٌ في الحركة بين يُمناهم ويُسراهم على البيانو، كما ساعده تكوينه الموسيقي الكلاسيكي في الوصول إلى رؤية تناغمية للجُمَل اللحنية، التي ظلّ متعلّقاً بها على حساب تجريبية بعضٍ من مُعاصريه. وهو ربما ما يشرح أيضاً ابتعاده عن الارتجال، وعمله أكثر أمام النوتة والألحان المكتوبة، مع العِلم أنه ألّف العديد من الأعمال التي عزفها، إلى جانب عزفه أعمالاً لملحّنين آخرين.