بينما كان الفرنسيون يحتفلون بعيدهم الوطني في الرابع عشر من تمّوز/ يوليو الجاري، كان المسرح الأوروبي عموماً، والإسباني على وجه الخصوص، يرثي واحداً من أهمّ الذين شُغفوا بثاليا، ابنة زيوس وملهمة الفن المسرحي، وكرّسوا لها جل أوهامهم وجهودهم وآمالهم. مع رحيل المسرحيّ الأرجنتيني أرييل غولدنبيرغ في مدينة نيم الفرنسية عن سبعين عاماً (1951 ـــ 2021)، تنطوي، بعد صراع مرير مع مرض السرطان، صفحةُ رجلٍ من طراز استثنائيّ، عاش الخشبة كما لو كانت وطنه الأمّ.
طوّر أرييل غولدنبيرغ حياته المِهنيّة في مجال إدارة المسرح، وتقاطع تاريخه الشخصيّ مع تاريخ إسبانيا في عقد السبعينيات من القرن الفائت، وتحديداً عندما وصل إلى مدريد مع فرقة مسرحية فرنسيّة جالت بعض المدن الإسبانية لعرض أعمالها على الخشبات المحلية. قرّر غولدنبيرغ آنذاك أن يستقرّ في إسبانيا؛ وفعلاً، سرعان ما بدأ يعمل مع جمعية "كاباييو دي باستوس" التي أشرفت على الدورة الأولى من "المهرجان العالمي للمسرح" في مدريد، حاصلاً بذلك على الجنسية الإسبانية عن طريق مرسوم حكومي.
كان المهرجان متواضعاً للغاية، غير أن غولدنبيرغ ــ الذي كانت له علاقات ثقافية أوروبية واسعة ــ راح يروّج لهذا المشروع، وسرعان ما بدأت الأسماء العالمية الكبيرة من طراز بينا باوش، وبيتر بروك، تتردّد على المسارح الإسبانية وتعرض عدداً من أهمّ الأعمال المعاصرة. "إن القيمة الفنيّة والفكرية للعروض المسرحية، علاوة على الأصالة التي تتجنّب النبرة الاحتفالية، هي الأساس في اختيار الفِرَق والعروض المسرحية"، اعتاد أن يقول المسرحي الأرجنتيني.
ارتبط اسمه بمسارح عالمية أدارها في باريس وميونخ ومدريد
لطالما ارتبط اسم غولدنبيرغ بأعظم خشبات المسرح العالمية؛ ففي العام 1989، بعد أن تولّى إدارة "مسرح ميونخ" لفترة وجيزة، عُيِّن مديراً لـ"مسرح بوبيني" قرب باريس. بعد ذلك تولى مهمّة الإشراف على "مسرح شايو الوطني" في باريس، وهو واحدٌ من أهم المسارح في فرنسا. في العام 2000، ترأّس "مهرجان الخريف" في مدريد، وشغل هذا المنصب مدة خمسة عشر عاماً، مساهماً في برمجة واستقبال أهمّ العروض ذات القيمة الفنية والفكرية. بفضله، لم يعد الإسبان مضطرّين للسفر خارج حدود أراضيهم من أجل حضور الأعمال المسرحية الأوروبية؛ صارت هذه الأعمال في متناول أيديهم على معظم خشبات المسرح المحلية.
كان غولدنبيرغ مثقّفاً بكلّ معنى الكلمة، يتحدّث الفرنسية والإيطالية والبرتغالية والإنكليزية والألمانية، إضافة إلى لغته الأمّ، الإسبانية، وكان من أشهر المنظّرين بالأرجنتين في إدارة المسارح. ولطالما اعتقد أن نجاحه في تطوير مِهنة دولية رائعة (كمشرف على أهم المسارح العالمية) وإحضاره أهم العروض الأوروبية إلى مدريد، يعود إلى "دعوات الغداء والعشاء مع المبدعين والفنّانين والسياسيين والمبرمجين المسرحيين، وإلى جلساتي الطويلة معهم، التي كانت تتجاوز أحياناً التسع ساعات، والتي تعلّمتُ فيها متعة الطعام الشهي في العديد من البلدان التي علّمتني كيف أضفي على علاقتي المهنية معهم شيئاً من الدفء؛ دفء لطالما اعتبرته هامّاً لنجاح أيّ عمل يقوم به المرء. نجاحي لا يعود إلى اللغات التي أتكلّمها، وإنما إلى هذا الدفء الذي أتحدّث عنه".
أقام غولدنبيرغ في مدن عديدة، ولطالما قال عن نفسه إنه "مترحّل مستقرٌّ". من هنا، لن يكون غريباً عليه أن يعيش في باريس، ثم في مدينة نيم، حيث فارق الحياة. لكنه مع ذلك، ظلّ يعمل ــ كما اعتاد أن يقول ــ في خدمة المسرح الإسباني.