في آخر مقابلة أجراها في شهر شباط/ فبراير الفائت، على هامش معرضه الأخير الذي أقامه بالتعاون مع "مؤسسة مافري"، أكد المصوِّر الفوتوغرافي الإسباني كارلوس بيريث سيكيير (ألمرية، 1930-2021)، أنّه يتمنى أن يرحل عن هذا العالم بين صوره المعلَّقة. وفعلاً هذا ما حدث، إذ توفيَّ يوم الاثنين الفائت عن عمر يناهر التسعين في مستشفى توريكارندس في مدينة ألمرية المتوسطية، بالقرب من كاميرا التصوير الموجودة إلى جانب سريره.
استطاع سيكيير، رفقة صديقه خوسيه ماريا أرتيرو، أن يجدّد التصوير الفوتوغرافي في إسبانيا بفضل الجمعية الفوتوغرافية "آفال"، التي ساهم في تأسيسها في مدينة ألمرية، حيث قام مع مجموعة من المصورين الفوتوغرفيين بإصدار مجلة حملت اسم الجمعية وساهمت بشكل كبير في تحديث الصورة في إسبانيا وإعطائها أبعاداً جديدة من حيث الضوء والمكان والمادة المصورة، فضلاً عن تقديم أسماء جديدة في عالم التصوير الفوتوغرافي.
لم يتأخر سيكيير في تعليق بصره وبصيرته على الأحياء المهمشة والفقيرة، لا سيّما حي "لا تشانكا"، في مسقط رأسه ألمرية، إذ كرّس له العديد من المعارض، بداية في الأبيض والأسود ثم بالألوان، تحديداً في حقبة الستينيات، الأمر الذي دفع الكاتب خوان غوتيسولو إلى استخدام صوره كأغلفة لكتبه، لا سيّما كتابه الذي حمل عنوان الحي نفسه، حي "لا تشانكا".
التقط كارلوس بيريث سيكيير الغالبية العظمى من أعماله الفوتوغرافية في الظهيرة، وهو أمرٌ عادة ما يتجنب المصورون فعله وذلك بسبب ضوء الشمس الذي من شأنه أن يعيق الصورة، مع ذلك كان يحمل كاميرته على كتفه ويخرج تحت ضوء شمس مدينة ألمرية الفريد، ملتقطاً المشاهد العابرة، العالم المرئي واللحظات التي تخطف القلب. احتفظ سيكيير، كما كان يطلق عليه الأصدقاء، بسرّ طريقة العمل هذه طوال حياته، ومن هنا كان لقبه الذي استحقه عن جدارة: مصوّر النهار.
ساهمت فترة انفتاح إسبانيا على أوروبا، لا سيّما قدوم السائحات السويديات إلى شواطئ إسبانيا الذهبية في إلهام سيكيير على إنجاز عمله الأبرز "الشاطئ"، الذي أراد من خلاله أن ينقد فيه المكان الذي شوهته "جغرافية اللحم"، على حدّ تعبيره، والوضعيات الفكاهية للجسد الأنثوي "الممدّد والمُحمّص على الرمال".
التقط الغالبية العظمى من أعماله الفوتوغرافية في الظهيرة
كان أسلوب المصوّر الراحل حدسيّاً كما أشار أكثر من مرة: "أنا لا أبحث عن شيء... يخرج البشر والأشياء للقائي، يخرج العالم كله للقائي عندما أحمل كاميرتي". أما عن الموارد والأدوات التي استخدمها في عمله، فقد كان بدائياً إلى حدٍّ ما، لا يعالج الصورة التي يلتقطها حاملاً الكاميرا بيديه، دون استخدام "التريبود"، أو الفلاش.
لطالما بحث سيكيير في صورته عن المادة الجديدة، هكذا راح يحاول في سلسلة من الصور كبيرة الحجم، التي التقطتها عدسته في أثناء رحلاته عبر الأراضي الإسبانية في القطارات، القبض على الحد الفاصل بين الواقع والخيال، الظل والضوء، لا سيما في عمله "أنا وظلي"، حيث راح يكيّف وضعيات جسده على الأشياء والمناظر الطبيعية، في محاولة منه لرؤية اللا مرئي.
في عام 2003 حصل كارلوس بيريث سيكيير على الجائزة الوطنية للتصوير الفوتوغرافي "تقديراً لمسيرته المهنية ورغبته المستمرة في التجديد وفي البحث عن لغات جديدة للتصوير الفوتوغرافي، فضلاً عن أثره البارز في تحديث التصوير الفوتوغرافي الإسباني المعاصر". في عام 2013، منحه مهرجان "فوتو إسبانيا" جائزة "بارتولم روس" عن مسيرته المهنية، وفي عام 2018 منحته الحكومة الإسبانية الميدالية الذهبية للاستحقاق في الفنون الجميلة.
لطالما ردّد بيريث سيكيير قبل رحيله عن عالمنا أنّ صوره ستدوم وستنتصر مع مرور الوقت، مؤكداً أن الشيء الوحيد الذي سيتركه لنا بعد رحليه هو نظرته لهذا العالم، لأشيائه وللبشر الذين يعيشون فيه.