إذا كان ثمّة أداة معرفية لمواجهة المشروع الصهيوني، فإنها لا تتمثّل بالوعي السياسي فحسب، على أهميته ودورِه المؤطِّر، بل لا بدّ من معرفة تتقدّمُ في حقل قلّما يُنظر إليه برئيسية، ألا وهو الجغرافيا. بحكم أنّ الاحتلال في سياساته وحروبه الإجرامية كلّها، بدءاً من نكبة عام 1948، استخدم هذا الحقل دامجاً إياه بآلته العسكرية، في سياق تهجير الشعب الفلسطيني ومصادرة أراضيه.
من هنا نبع اهتمام الجغرافي الفلسطيني كمال عبد الفتاح، الذي رحل عن عالمنا أمس الجمعة في مدينة جنين عن عُمر يناهز الثمانين عاماً، تاركاً وراءه عشرات المؤلّفات والأوراق البحثية التي بذل فيها جهداً كبيراً لتفكيك أدوات التوطين الاستعماري، ولقراءة جغرافيا فلسطين بوصفها حيزاً للإرادة الشعبية.
ولد الراحل في التاسع من شباط/ فبراير 1943 ببلدة أم الفحم، وبعد النكبة لجأ وعائلته إلى قرية سيلة الحارثية التابعة لجنين. ثم تدرّج في تعليمه لينال شهادة الثانوية عام 1958، قبل أن يلتحق بقسم الجغرافيا في "جامعة دمشق"
قرأ النكبة في سياق استعماري بدأ منذ نهايات القرن التاسع عشر
انشغل عبد الفتاح بمدينة جنين، وطبّق أوليات معرفته الجغرافية عليها، متّخذاً منها مجالاً تطبيقياً للبحث والإنتاج. وفي هذا الإطار، قدّم مشروع تخرّجه الذي أظهر فيه مستوىً مرموقاً من الخبرة الميدانية، حيث اعتمد فيه على سجلّات الدوائر الحكومية في المدينة الفلسطينية، الأمر الذي دفع بالجامعة حينها أن تطبع من مشروعه أربعمئة نسخة. وليَصدُر، لاحقاً، في كتاب بعنوان "مدينة جنين" مشتملاً على فصول أربعة، هي: "الموقع والحدود ولمحة تاريخية"، و"التضاريس والجيولوجيا والمناخ والمياه والتربة"، و"الزراعة والحرف والمهن والتجارة وأموال المغتربين والمواصلات والنقل"، و"الحياة البشرية والاجتماعية والمساكن والعادات والتقاليد".
أما رحلته الأكاديمية فقد بدأها مُعلّما في مدارس نابلس وجنين أواسط عقد الستينيات، قبل أن يُسافر إلى ألمانيا ويعمل لسنوات بوصفه باحثاً في "جامعة إيرلنغ"، وفي عام 1978 عاد إلى فلسطين والتحق بـ"جامعة بيرزيت" مؤسّساً فيها لدائرتين: واحدة للتاريخ وأُخرى للجغرافيا، وبهذا يفتتح فصلاً معرفياً جديداً موضوعه الجغرافيا الفلسطينية، واصله من بعده مجموعة من طلبته.
لم تكن أكاديمية كمال عبد الفتاح ذات بُعدٍ واحد، أو مكتفية بذاتها كحالة مخبرية وحسب، بل انطلق خارج أسوارها، في محاولة منه للانفتاح الملموس على الجغرافيا، بما هي طبيعة ممتدّة على السهول والجبال من النهر إلى البحر، وذاكرة شعب فلسطيني يحيا فيها منذ آلاف السنين.
توّج عقدُ الثمانينيات مسيرة الراحل الأكاديمية، وشملت الرحلات العِلمية والتوثيقية التي ينظّمها (بلغ عددها أكثر من سبعين رحلةً)، قرىً وبلدات فلسطينية مختلفة من طبريا في أقصى الشمال، مروراً بمدن الساحل الفلسطيني عكا وحيفا، وكذلك مدن الضفة الغربية، وصولاً إلى ميناء أم الرشراش على البحر الأحمر جنوباً. وتضمّنت هذه الرحلات إجراءات تنقيبية لقرى فلسطينية دُمّرت جراء عنف آلة الحرب الإسرائيلية، التي لم توفّر المكان بعد أن شرّدت أهله، في محاولة منه ومن فريقه لحفظ آثار البلاد.
لم ينظر صاحب "التطوّر الاقتصادي الفلسطيني في الفترة العثمانية المتأخّرة" إلى احتلال الصهاينة لفلسطين، بوصفه حدثاً ذا بُعدٍ آني تمثّل بنكبة 1948، بل وضع اليد على الدينامية الاستعمارية التي اشتغلت في المنطقة منذ نهايات القرن التاسع عشر، وتسلّحت بالتقنية العِلمية والمعرفية للدول الاستعمارية، قبل أن تُغذّي هذه الأخيرة الحركة الاستيطانية في فلسطين، إثر انهيار الحُكم العثماني، وتعمل منذ ذلك الحين، أي قبل النكبة بعقود، على تغيير الأسماء العربية بأُخرى عبرية مُختلقة.
نشر الراحل أوراقاً ومؤلّفات في البحث الجغرافي عديدة، منها: "النظُم الجغرافية التاريخية"، و"الجغرافيا التاريخية لفلسطين وشرق الأردن وجنوب سورية ولبنان في القرن السادس عشر ميلادي"، وهو مأخوذ من دفاتر الضرائب العثمانية من الأرشيف العثماني في إسطنبول، حيث قام بالتعاون مع المشرف على أطروحته الأكاديمية بتحويل سجلات الضرائب العثمانية (لجنوب بلاد الشام) إلى بحوث جغرافية، و"مزارعو الجبال والفلاحون في عسير"، و"التطور الاقتصادي الفلسطيني في الفترة العثمانية المتأخرة"، و"قرى الكراسي في جبال فلسطين الوسطى".