تقف هذه الزاوية مع مصمّم غرافيك في أسئلة حول خصوصيات صنعته ومساهماته في الثقافة البصرية. "مجتمعاتُنا وشعوبنا من فلسطين إلى المغرب العربي بأمسِّ الحاجة لنا كمصمّمين لإظهار قضاياهم وإعلاء أصواتهم"، يقول المصمّم اللبناني في لقائه مع "العربي الجديد".
■ كيف بدأت حكايتك مع التصميم الغرافيكي أو كيف أصبحت مصمِّماً؟
- بدايتي مع التصميم تعود الى تعلُّقي بالرسم منذ الطفولة. كنتُ أمضي معظم وقتي وأنا أرسم، منذ الخامسة من عمري. وأذكر أيضاً عندما كان والدي يأخذني إلى عمله، حيثُ يتحلّق أصدقاؤه حولي ويطلبون مني: "ارسم لنا كذا وكذا…". وفي سنّ المراهقة بدأتُ أُصمّم أغلفة أشرطة الكاسيت الموسيقية بعد نسخها، وأتخيّل تصاميم مختلفة عن الأغلفة الأصلية. في التاسعة عشرة من عمري دخلت "الجامعة اللبنانية الأميركية" لتعلُّم التصميم الغرافيكي، وذلك رغماً عن رغبة والدَيَّ اللذين لطالما أرادا أن أبتعد عن المِهن الفنّية والالتحاق بدراسات قد تؤمّن مستقبلاَ أضمن.
■ هل تعتقد أن هناك لغة أو هوية تصميمية عربية خاصة، تعكس ثقافات وهوية المجتمعات العربية اليوم؟
- حالياً لا أعتقدُ أنّ هناك لغةً تصميميةً عربية خاصة، فالعالم العربي متنوّع ومختلف من مشرقه إلى مغربه. فليس باستطاعتي أن أجزم مثلاً أنّ التصميم في مصر هكذا، أو أن التصميم الأردني أو الفلسطيني له تلك الميزة، إلخ. صحيح أن ما نراه على واجهات المحلّات أو اللافتات الطرقية في مختلف الأماكن الشعبية في العالم العربي يُمكن أن يعكس هوية تصميمية خاصة أو متشابهة في بعض الأحيان، حتى لو أنّ مبتكريها ليسوا مصمِّمين أساساً بل خطّاطون، ولكن هذا يعكس جزءاً صغيراً من التواصُل البصري. إنما تجب الإشارة إلى أنّ هناك مبادرات فردية، وتواصلاً بين المصمِّمين المعاصرين من داخل الوطن العربي وخارجه، ممّا يشكّل موجاتٍ من الابتكار في التصميم العربي، والتي تؤثّر بتشكيل الهويات البصرية العربية الحديثة، إنْ كانت عربية أو غربية التأثير.
مشاريع التصميم العربية الكبرى تعطى إلى شركات أجنبية
■ هل يمكن تشبيه التصميم بالعمارة، بمعنى أننا نسكن اليوم في فضاء يصنعه المصممون؟
- إلى حدٍّ ما، إذا ما اعتبرنا أنّ العمارة هي المجتمع الذي نعيش فيه أو الفضاء الذي يُحيط بنا. فهل يُمكنُنا أن نعتبر اليوم أنّ المصمِّمين العرب يُشاركون بشكل مباشر وفعّال بتشييد هذه العمارة؟ لا أعتقد ذلك، الدعم من الحكومات والمؤسسات العربية شبه معدوم، والمشاريع المهمّة تُوَكّل لمصمّمين ولشركات أجنبية. وحتى لو أن هذه الشركات استخدمت مصمّمين عرباً مقيمين في الخارج، يبقى الصيت والتوقيع للشركات الأجنبية. ولكن بدأنا نلمس مؤخّراً انعطافاً، ولربما سببُه اقتصادي، حيث إن مشاريع مهمّة بدأ يلتزمها مصمّمون عرب في المهجر، ولحبّذا أن يُلامس هذا التغيير واقع المصمِّمين العرب المحلّيين.
■ كيف تنظر إلى التصميم الغرافيكي، وهل تعتبره فناً أم صنعة، ولماذا؟
- هذا سؤالٌ لطالما أرهقني حتى اتّضح لي أنّ هذا الطرح غير سليم أساساً، فالغرب بنظامه الاقتصادي يُحبُّ تصنيف المهن والاختصاصات ووضعها في قوالب لتسهيل دوران العجلة الاقتصادية. والتصميم الغرافيكي أحدُ هذه المِهن، ولكنّي أعتبرُه فنّاً لأن جوهره الإبداع والابتكار. كما أيّ فنّ آخر، في التصميم يجبُ أن يكون الإبداع والتنفيذ (الحِرَفية) متوازيَين، فإذا نقصت الحِرَفية نقص التصميم وضعفت الفكرة الإبداعية. أجل هناك تفاوتات في حرّية الإبداع في التصميم بين مختلف المجالات، من يرسم هوية بصرية لمعرضٍ فني ليس كمَن يرسم شعاراً لشركة تأمين مثلاً. ولكنْ، حتى في أبسط أو أكثر المشاريع مللاً فهناك مساحة للإبداع، وهذا سلوك للمصمّم الفنّان أن يتّبعه.
■ ما هي أبرز التحدّيات التي تواجه عملك كمصمم؟
- من أبرز التحدّيات التي أُواجهها في عملي هي بلورة الفكرة الإبداعية، فكلُّ مشروع جديد ألتزم به أتعاملُ معه كأنّه أول مشروع أقوم به في حياتي؛ لربّما يعود هذا إلى بحثي عن الإثارة أو التشويق للاستمتاع خلال سير عملية المشروع. والتشويق يسبق لحظة العثور على الفكرة الإبداعية الفريدة، وعدم إيجادها غالباً ما يولّد إحباطاً وتخبُّطاً في الابتكار، ممّا يؤدّي الى اتّخاذ توجُّهٍ بصَري غيرِ مُرْضٍ حسب ذوقي. هذا التحدي والعناء الذي يرافقه، لأنّني أخاف التقليد أو الخروج بتصميم مُشابهٍ لأيِّ عمل سابق، ربّما، أو لعدم حُبّي أن أتّبع الموضة الغرافيكية الشائعة.
أتعامل مع كل عمل جديد كأنّه أول مشروع أقوم به
■ المسؤولية الاجتماعية للمصمم، كيف تراها؟
- كما المفكّر والفنّان والكاتب والصحافي، فالمصمّم لديه مسؤولية اجتماعية وأخلاقية، إذ يجبُ أن يكون على درايةٍ بما يجري من حوله، وأن يحاول بما استطاع أن يُسخّر بعضاً من وقته وفنّه لخدمة القضايا الاجتماعية، وما أكثرها في وطنِنا العربي، من فلسطين إلى سورية إلى اليمن حتى المغرب العربي، مجتمعاتُنا وشعوبنا بأَمسِّ الحاجة لنا كمصمّمين لإظهار قضاياهم وإعلاء أصواتهم.
■ كيف تعلّق على غياب ظاهرة المصمم الملتزم بقضايا مجتمعه واكتساح ظاهرة المصمم التجاري أو ذلك الساعي إلى العمل لصالح الشركات والمؤسسات الفنية الكبرى؟
- يُمكن للمُصمّم أن يكون رهينةً للعالَم الرأسمالي، وألّا يُكِنَّ للأمور والقضايا الاجتماعية أيّ اهتمام. فمنذ أن كُنّا طلاباً في الجامعة، ونحن نُهيَّأُ للدخول بمعترك الحياة الإنتاجية، لكفالة استمرار دوران العجلة الاقتصادية العالمية. ومنذ البدايات يتكوّن عندنا معتقَدٌ عن أنّ النجاح لا يُترجَم إلّا بالعمل لصالح الشركات الكُبرى العالمية، وربح المال الوفير. لذا يدخل المصمِّمُ في هذه الدوامة لا شعورياً، ويجد نفسه مقيّداً بهذا العمل أو ذلك المنصب، وغير قادر على المساهمة اجتماعياً أو إنسانياً. فمنهم من يستفيق، ويبحث عن مَخرجٍ، أو يستدرك مسيرته المهنية ساعياً لوضع فنّه من أجل تغيير أو تحسين المجتمع. ولكنّ ذلك يتطلّب من المصمِّم كثيراً من الصبر والتقبّل في معيشة بمردود مادّي أقلّ، ولربما هذا هو السبب الرئيسي لنُدرة المصمِّمين المناضلين.
■ ماذا أبقت برامج التصميم الإلكترونية للعمل اليدوي، مقارنة بالسبعينيات والثمانينيات مثلاً؟
- صحيحٌ أنّ البرمجيات ساهمت كثيراً في إشاعة وانتشار التصميم الغرافيكي، ممّا ترك انطباعاً بأنّ الأعمال اليدوية باتت أقل. على العكس، أعتقدُ أن العديد من المصمِّمين استمرُّوا في استخدام أيديهم للإبداع، باستثناء أن التقنيات تطوّرت نحو الأبسط والأسرع وجعلت التصميمَ مُتاحاً حتى لمن لا يُتقن الرسم. اليوم بفضل الأجهزة اللوحية، يمكنُنا بسهولة الدمج بين الرسم على الورق، والمسح الضوئي له والتعديل فيه، وإعادة الرسم من فوقه، للحصول على شيءٍ متطوّرٍ للغاية يُعطي انطباعاً بأنه مشغولٌ يدوياً بالكامل. أهمّ شيء هو عدم السماح للبرنامج بفرض أشكاله على التصميمات التي نصنعها، ومعرفة كيفية استخدامه كأداة فقط، وليس كلوح للرسم والتعبير.
■ كيف تقيّم تعليم التصميم الغرافيكي في الجامعات العربية؟ نلحظ غياب معاهد خاصة بالتصميم وحتى نقصاً في كليات التصميم، ما السبب في رأيك؟
- ما زال تعليم التصميم الغرافيكي في الجامعات العربية مهمّشاً أو حالة استثنائية. وعلى الرغم من بعض المبادرات الصغيرة الحديثة، مثل إدراج بعض الجامعات الحكومية لهذا التخصُّص، وبعض ورش العمل التدريبية، يبقى المجال الخاص التابع للجامعات الأجنبية بلا منافس. وهذا يعود برأيي لسببين: الأوّل هو ترهُّل البنية التعليمية المحلية/ الحكومية في عالمنا العربي، وعجزها عن مواكبة التطور لتقديم البديل. والثاني يعود إلى الانطباع السلبي لدى مجتمعاتنا عن التعليم الحكومي، مقارنة مع التعليم الأجنبي، وهذا ينطبق على أغلبية التخصُّصات الجامعية. فالأغلبية تسعى إلى الحصول على شهاداتٍ جامعية أجنبية، وإكمال تخصُّصها في العالم الغربي.
■ ما هو آخر تصميم قمت به؟
- أعمل على عدّة مشاريع في آنٍ واحد وعلى عقود سنوية. ولكنّ آخر تصميم قمتُ به، هو ملصق "لليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني" (29 تشرين الثاني/ نوفمبر). وأعمل أيضاً على تصميم الهوية البصرية لـ"بودكاست مدوّنات"، حيث كلُّ حلقة لها تصميمٌ خاصّ مؤلّفٌ من رسم وعنوان مشغولَين باليد. أذكرُ هذا المشروع لأنّ القيّمين على المشروع في "المورد الثقافي"، أعطوني الحرية الكاملة في التعبير الفني.
■ هل هناك تصاميم قمت بها وتندم عليها؟
- طبعاً؛ هناك العديد من التصاميم التي أندم عليها. بعضها ما أندم على قبولي بالعمل بشروطٍ تُخالف مبادئي بالعمل والحياة، وغيرها حيث لم أدافع كفاية عن وجهة نظري واقتراحي الفنّي. ولكنّها كلّها كانت تجارب مفيدة في الحياة، حيث إني أتعلّم من أخطائي، وخصوصاً في وضعي كمصمِّم مستقلٍّ. ففي الجامعة تعلّمتُ التصميم فقط، وهذا لا يكفي في الحياة المهنية، حيث يجب أن أكون المصمِّم و المفاوض والتاجر ومدير العمل.
■ يوصف المصممون بأنهم أصحاب شخصيات "صعبة" و"زئبقية"، أي يصعب التعامل معها.. هل توافق على هذا وما هو تفسيرك، وما هي نصيحتك أخيراً لمن يتعامل مع مصمم؟
- هذا الوصف بأن المصمّمين شخصياتهم صعبة، تمكنُ مقارنتُه أيضاً بوصف الموكِّلين (العملاء)، بأن أغلبهم يحترفون الإغاظة والتطلُّب مثلاً! الموكّلون أكثرية والمصمّمون أقلّية، فأيّ الوصفين أدقّ؟ على العكس فأنا أجد أنّ هناك الكثير من المصمّمين يتمتّعون بالروح المَرِحة وسهلٌ التعامُل معهم. المُشكلة تكمُن دائماً بعدم احترام خصوصيات عملِ المُصمِّم، حيث يسمح الموكّل لنفسه بالتدخّل في توجّه العمل الإبداعي، وهذا ما يعكس لنا الطابع أنّ المجتمع ينظر للتصميم كأنه هواية، مجرّد "أناس يتسلّون خلف الشاشة"، متناسين صعوبة وتعقيد هذه المهنة. التعامل مع أيّ مصمّم يبدأ أولاً بالاحترام، وثانياً بالثقة، وثالثاً بالتقدير المعنوي والمادي.
بطاقة
مُصمِّم غرافيك وحروف ورسّام، من مواليد لبنان عام 1980، يقيم في باريس. مؤسّس "استديو نيم" Studio Nem، الذي يُركّز على المشاريع البصرية المُتقاطعة الثقافات والمتعدّدة اللغات، يُصنَّف مشروعُه ضمن حقل التصوير المرئي ويقوم على ترجمة الكلمات والمضامين إلى أشكال ورسوم معتمداً على نهج تحديثي وتجريبي في التصميم والخط العربي. ظهرت أعماله في المشهد البصري العربي في العديد من كتُب التصميم، وقد شارك في معارض دولية عدّة، خلال 17 عاماً من الممارسة الفنية. يُدرِّس الحرف المطبعي العربي التجريبي في "المدرسة العليا للفنون البصرية في مراكش" (ESAV).