رنا عيسى: رحلاتُ الإنجيل إلى العربية

03 أكتوبر 2023
رنا عيسى، 2020 (ت: شيرين أبو شقرا)
+ الخط -

الرهان الأدقّ في تبليغ الكلام الإلهيّ هو صياغتُه في عبارة جزلة تتلاءم مع رفعة المضمون المتعالي وتتناسب مع جلالته. هذا الرهان هو ما سعت لتحقيقه الترجمات العربية الحديثة للإنجيل، وهو ذات ما عادت إليه بالتحليل الباحثة اللبنانية الفلسطينية، رنا عيسى في كتابها "الإنجيل العربي المُعاصر: الترجمة والتقسيم والأثر الأدبي"، والذي صدر عن "مطبوعات إدنبرة الجامعية" (2022). 

ينقسم هذا الكتاب إلى خمسة فصول؛ عالج الأوّل منها ترجمة الإنجيل التي أشرف عليها الإرساليون الغربيّون، وعلى رأسهم القسّ عالي سميث (1802 - 1857)، والتي استكملها كورنيليوس فان دايك (1819 - 1895) سنة 1864 بمساعدة بعض المثقّفين اللبنانيّين، فكانت اللبنة الأُولى في مجهود ترجمي استمرّ لعقود، علمًا أنّ ترجمة "العهد القديم" تمّت انطلاقًا من العبرية، و"العهد الجديد" انطلاقًا من اليونانية.

في الفصل الثاني، استعادت رنا عيسى المنافسة التي استعرت بين المستشرقين الأميركيّين والأوروبيّين، وهو ما خلق ضربًا من التوتّر والصراع حول امتلاك "الرأسمال الرمزي" المتمثّل في القدرة على تأدية معاني الإنجيل في عربية مُعاصرة ومفهومة تُخاطب الضمائر والعقول. 

حضرت مقولة الإعجاز القرآني بشكل لا واعٍ في ترجمة الإنجيل

وفي الفصل التالي، تعرّضت الباحثة إلى تحوُّلات العربية الفصحى الحديثة بعدما صارت أداة التواصل اليوميّ، وإليها نُقلت نصوص الإنجيل حتى تشيع أكثر بين المسيحيّين العرب الذين بدأوا يُحسّون باستقلال هويّتهم السياسية عن مُعاصريهم من المسلمين، بسبب فتور الحُكم العثماني وخلافته الرمزية. وقد ساعد العلماء اللبنانيون؛ مثل بطرس البستاني (1819 - 1855) وناصيف اليازجي (1800 - 1871) ويوسف الأسير (1815 - 1889) في هذه الصياغة، وكلُّهم خفّفَ الضاد من أثقال البلاغة بفضل العمل الصحافي والأدبي ضمن حركة الإحياء، إذ كان قصدهم من خلال هذه الحيوية الفكرية والتاريخية نشر الإنجيل ليغدو في متناول القارئ العادي، وليس فقط تراتيل مقدّسة تحتكرها فئة العلماء المتضلّعين في علوم اللاهوت وسائر أفانين البيان. 

وركّزت الباحثة والناشطة الثقافية المقيمة في أوسلو النرويجية، في المبحث الأخير من كتابها، على ترجمة أحمد فارس الشدياق للإنجيل (1804 - 1887)، والذي تأنّق في إيجاد صياغة أدبية تُراعي معايير الصنعة الفنّية واختيار المفردات والتراكيب. فلم يكن النصّ العربي مجرّد تراكُم للتعاليم اللاهوتية والأخلاقية والروحية، بل، وبالدرجة الأُولى، أثرًا أدبيًّا يُحرّك المشاعر ويهزّ أعطاف القلوب. وقد ساد هذا التوجُّه بفضل بيئة النهضة الفكرية التي جدّدَت وسائلَ التعبير الأدبي على أنقاض مرحلة الانحطاط وهيمنة محسنّات البديع المتكلّفة. وقد ذُيّلَ هذا العملُ الجامعيّ بقائمة مطوّلة من المصادر والمراجع التي اعتمدتها عيسى، فضلاً عن ثبتٍ لأسماء الأعلام والمفاهيم الأساسيّة، ممّا ييسّر البحث العلمي عن المواد فيها.

غلاف الكتاب

ومع ذلك، ليس هذا الكتاب تاريخًا خطّيًا متسلسلًا يرصد ترجمات الإنجيل المعاصرة للعربية ويستقصي أهمّ المراحل التي مرّت بها، وإنّما هو تحليلٌ معمَّق للعوامل السياسية والثقافية والمفهومية التي أحاطت بنقل "الكتاب المقدَّس".. تحليلٌ يفتح، في جرأة، بعض الإشكالات التصوُّرية والعمليّة التي رافقت نقْل نص العهديْن، القديم والجديد، من السريانية والعبرية نحو اللغات الأوروبية ومنها إلى العربية المعاصرة، ثم ما أسفر عنه هذا النقل من تحوُّلاتٍ في المعنى وتغيّر في طاقات الكلام الإيحائية، في مرحلة بحثَت فيها الثقافة العربية عن هويّة مغايرة، إمّا إصلاحًا للماضي أو قطعًا معه.

وقد شدّدت عيسى على فكرة الانقسامات والتصدّعات التي طاولت الديانة المسيحية بسبب هذه الترجمات المتبايِنة في بحثها عن المقابلات العربية التي أريد منها أن تقابِل المفاهيم الواردة في العبرية واليونانية، فضلاً عمّا في اللغات اللاتينيّة والجرمانية، ولكُلّ لسانٍ "عبقريّته" في تصوُّر الأشياء والدلالة عليها. وهو ما أنتج بدوره كيفيّات مختلفة في قراءة النصّ المقدَّس وتأويل مضامينه. ولا ننسى هنا أنّ ترجمة الصور والاستعارات، المنتمية إلى الأبنية الدينية التي يسمّيها المفكّر الجزائري محمد أركون (1928 - 2011) "البنية القَصصيّة ذات الطابع المقدس السائدةَ في مجتمعات الكتاب"، تُسفر لا محالة عن ضياع قسم كبير من المعنى وتحويرٍ لمكوّناته التي تتلاشى في متاهة الفضاءات الدلالية الخاصّة بكُلّ لغة. 

ولا عجب أنْ كانت هذه التأويلات مصدرًا للتصدّع لدى الطوائف والجماعات الدينية المنضوية تحت لواء المسيحية. فهذه هي الطبيعة الأُولى للنصوص الدينيّة عمومًا. ولعلّ أصالة هذه الدراسة تكمن في كشفها عن التاريخ الزمني المُحايث لترجمة الكلام المقدس، والتنقيب في العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ذات الطبيعة البشرية المحضة التي تؤثّر في إنجاز هذه الترجمات عبر لفظ بشري متحوّل، هذا فضلًا عن دراسة الأبنية المادّية الأُخرى التي رافقت مسار الإنتاج الملموس للإنجيل ثم إشاعاته لدى القرّاء المؤمنين وغيرهم، وهو ما يعني تتبّع تاريخ المطابع والصحف والمجلّات التي أسهمت في ذيوع النسخة السائدة الآن.

ترجماتٌ متباينة أدّت إلى اختلاف قراءة النصّ وتأويل مضامينه

ولذلك، ركّزت مُترجمة "كشف المخبّا" على قضيّة الحداثة وتجديد الضاد وتيسير قواعدها وإغناء حقولها المعجمية وبناها التركيبية من أجل التوصّل إلى ترجمة دقيقة للكتاب المقدّس والتعبير عنه بوسائل ناجعة في تبليغ التعاليم الروحيّة جنبًا إلى جنب مع بثّ مقولات التحديث والتحرّر، وكلّ ذلك في "صيغة تعبيريّة"، والمفهوم لعبد الله العروي، يفهمها عامّة القرّاء.

ولا شكّ في حضور مقولة الإعجاز القرآني، في مختلف عمليّات الترجمة المدروسة، بشكلٍ لاواعٍ في أذهان المسيحيّين العرب، حيث نُصِّب هذا النص معيارًا للفصاحة وظلّ يُعتبر المرجع الرئيس الذي تُقاس وفقه سائر الخطابات الأُخرى. ولعلّه قد لعب دورًا خفيًّا في دفع المترجمين العرب إلى التأنّق في اختيار الصيغ والمفردات والمجازات حتى يكون أثر الإنجيل مسايرًا لأثر القرآن، وعلى الأقل لا ينحطّ عنه درجاتٍ من جهة التأثير الأدبي. 

وبالنظر إلى حجم الوثائق والأرشيفات المتعدّدة التي استند إليها، يقدّم هذا الكتاب نموذجًا حيًّا عن الدراسات التاريخية النقدية التي تتّصل بانبثاق النصوص المقدَّسة، لا كمعنى متعالٍ، بل كخطاب له مستند زمني- إنساني. على أنّ هذه المقاربة النقديّة لم تُطبَّق بشكلٍ كافٍ على نصوص الإسلام التي لا تزال في نطاق المحظور، رغم أنّ الإضاءة النقديّة كفيلة بإجلاء عامل التدخُّل البشريّ في إضفاء القدسيّة. وقد تطيح هذه المقاربة بالأوهام الفردية والجماعيّة حول تعالي الكلام الإلهي، كما أشار إلى ذلك مارسال غوشي في كتابه "نزع الأسطرة عن العالم" (1985)، وتُخلّص العقل من القيود التي تمنع انطلاقة الروح، بعيدًا عن إملاءات البشر وصراعاتهم المحايثة.

* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

موقف
التحديثات الحية
المساهمون