"يعرض هذا الكتاب فكرة راديكالية. فكرة تؤرّق كل الأقوياء منذ قرون...". هذه إحدى العتبات النصّية الأولى التي يلتقي بها القارئ وهو يمسك بكتاب "البشرية: تاريخ متفائل" للباحث الهولندي روتغر بريغمان (1988). العمل صدر بلغته الأم في 2019 وصدرت هذا العام طبعته الإنكليزية ثم الفرنسية (منذ شهر) لتحقّق لمؤلّفها المزيد من الانتشار بعد نجاح كتاب سابق له بعنوان "يوتوبيات واقعية" (2017).
قد تبدو الجملة المشار إليها من كتاب بريغمان جزءاً من لعبة دعائية تشوّق القارئ وتدفعه لاقتناء كتاب، غير أنها بشكل ما كانت ضرورية لبناء مفارقة والتأكيد عليها: تغييب الفكرة التي يتحدّث عنها المؤلف مقابل حضورها في الحياة اليومية وإمكانية التثبّت منها بشكل بسيط. وبعد تشويق عدد من الأسطر، يقول الكاتب الهولندي: "الفكرة التي أتحدّث عنها؟ إن معظم البشر طيّبون".
قد يصاب بعض القرّاء هنا بخيبة، فلا جديد في ما قاله بريغمان الذي سرعان ما يؤكّد أن السؤال قديم بالفعل غير أن العمل دعوة للتفكير فيه بشكل جديد: ماذا لو وضعنا هذه الفكرة البسيطة وأعدنا كتابة التاريخ، بعد أن حوربت بشكل منتظم، حتى باتت مهجورة متروكة مقصيّة من الخطاب المعرفي. يرى بريغمان أننا لو أعدنا استعمالها، واعتقدنا فيها، فسنحصل على مادة تاريخية غير تلك التي نتداولها، وهكذا نفهم ضمنياً بأن التاريخ البشري الذي نقرؤه ونرثه جيلاً بعد جيل قد قام على الفرضية النقيضة التي ترى "الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان" (مقولة هوبز).
يوحي عنوان الكتاب أن بريغمان ينتصر إلى القول بأن الإنسان طيّب في أصله (مقولة روسو)، ولكنه لا يقول ذلك طوال عمله، حتى إننا نقرأ مقطعاً بعنوان "ماذا لو كان روسو على حقّ" كما نجد ضمن النص هذه العبارة "يمكن أن يكون هوبز على حق بالفعل". ما يؤمن به بريغمان هو أن الإنسان مزدوج في عمقه، طيّب وشرّير في آن، لكن الإشكالية تتمثّل في كون التاريخ والمعرفة يميلان إلى فرضية دون أخرى بشكل جائر. فإذا كان الإنسان مزدوجاً فعلى المعرفة أن تكون كذلك، حيث لا معنى أن تسلّم العلوم الانسانية بسوء طويّة الإنسان، وكأنها بذلك تحاكي ما يُعرف بقصة الدب في الغابة، فــ"العاقل" عليه أن يكون مسلّحاً لمجرّد وجود ظن بوجود خطر. هذه الإشارة تعطي عمل بريغمان بُعداً ابستميولوجيا، فالمعرفة العلمية تنقصها اليوم قيم المرونة والدقة والعناية بالتفاصيل، مفضّلة راحة التعميمات الكبرى.
الكتاب محاولة لترميم ثقة الكائن البشري بنفسه
بشكل صريح، يؤكّد بريغمان أن هدفه من الكتاب ليس الدفاع على نظرية ضد أخرى، فهذا الجدل من كلاسيكيّ الأدبيات الفكرية، وكثيراً ما يُختزل في السجال بين روسو وهوبز. يُظهر الباحث الهولندي أن هذا السجال حاضر أيضاً في العلوم الحديثة مثل العلوم العصبية ودراسات الذكاء وعلم النفس التطبيقي. يضع بريغمان هذين الشكلين من المعرفة تحت مجهر المقارنات فيجد أن العلوم الإنسانية (ذات النزعة التنظيرية) كالتاريخ وعلم الاجتماع والعلوم السياسية قد بنت معظم خطابها على أطروحة هوبز، وفي المقابل يكشف بأن علوم الإنسان (الطبيعية) تؤدّي بها التجارب في الغالب إلى مقولات قريبة من روسو.
هكذا يُحسب للعمل - في ما يُحسب له - أنه يَدرس العلاقات بين المعارف وكيف تؤدّي الفرضيات إلى نتائج نعتقد في صحّتها في حين أن تغيير معطيات بسيطة قد يؤدّي إلى نتائج مختلفة، وبالتالي إلى حقائق مختلفة. كما يُحسب للعمل محاولته الجريئة في "نزع السحر" عن عصر الأنوار منذ أن يلاحظ أن هوبز أحد آبائه وأن روسو أحد أبرز الفاعلين فيه.
يعرف بريغمان أن الوساطة بين الفيلسوفين غير ممكنة لذلك لا يضعهما في مواجهة مباشرة متخذاً مسرباً آخر حين يتصفّح تاريخ البشرية معدّداً أثر هذه الفرضية أو تلك. الملاحظة التي تقفز للعين دون عناء هي أن التاريخ كما نقرؤه هو انتصار كاسح لهوبز على روسو، لكن فحص الأمر من زاوية منطقية أو علمية يفضي بنا إلى القول بأن سبب هذا النصر ليس صلابة نظرية الفيلسوف الإنكليزي أو خللاً في أطروحة الفيلسوف الفرنسي، بل يعود إلى أن هناك اعتقاداً أعلى في فرضية الأوّل لدى المؤرخين والسياسيين، وليس عند عامة البشر، وغلبة هذا الاعتقاد هو الذي يفسّر حضورها أكثر في الواقع، حتى بات بعض الناس يُنكرون الجانب الطيّب فيهم كي يطابقوا الواقع، على الرغم من كون هذا الأخير ليس أكثر من اصطناع.
لبناء عمله، لم يقدّم بريغان عرضاً كرونولوجياً متتابعاً لتاريخ البشرية، ولم يذهب إلى تعداد محطاتها الكبرى المعروفة من حروب واكتشافات، ولا حتى اعتنى بقراءة أمهات النصوص والكتب، بل إن عمله ينتصر إلى "السرديات الصغيرة"؛ حكايات الناس وأخبار العلماء وجدالاتهم. حكايات متفرّقة يغلي بها العمل، بعضها من يوميات الحياة الاجتماعية وبعضها من التاريخ السياسي والفنّي، وقد يعرّج بنا المؤلف فجأة على فكرة ما أو يعلّق بتوسّع على حدث أو حادثة.
يقدّم دراسة في العلاقات بين الحقول المعرفية المختلفة
بهذه الطريقة، يشبه كتاب "البشرية: تاريخ متفائل" موجة من الكتابات الفكرية الحديثة التي تبدو سائلة مثل العصر الذي تنتمي إليه بحدّ توصيف عالم الاجتماع البولندي الراحل زيغمونت باومان. لكن يمكن أن نلاحظ سمة أخرى في بناء العمل، حيث يشبه الكتاب بعض روايات دوستويفسكي الكبرى حين ينتقل فيها بين أذهان الشخصيات (نسمع في الكتاب أصوات علماء وفلاسفة...) ثم لا يلبث أن يعطي رأيه ويغيّر اتجاهات السرد ضمن نسيج واحد.
من هذه التعريجات التي يقترحها العمل إضاءته الموسّعة على كتاب "الأمير" باعتبار أنه قد أصبح لاحقاً الكتاب المؤسّس للعلوم السياسية، وهو كتاب يصفه بريغمان بأنه "يجعل الإنسان متنكّراً إلى أي طيبة عميقة داخله". يشير المؤلف إلى أن كتاباً مثل "الأمير" لم يؤثّر على الأعمال الفكرية اللاحقة وحدها، بل إن فرضياته تسرّبت في الأدب والفن وفي منطق الحياة اليومية، ويلفت إلى أن الأعمال التي نعتبرها اليوم أركاناً للثقافة العامة، من مسرحيات شكسبير إلى فيلم "العرّاب" وصولاً إلى سلسلة "لعبة العروش"، قد تبنّت فرضياته ومرّرتها للناس مذوّبة في كؤوس المتعة الفنّية، ومن ثمّ فإن فرضية هوبز وجدت كل العناصر مهيّأة لإيصالها إلى مدى بعيد، فلا غرابة بعد ذلك أن يبدو الواقع وكأنه قد خذل الفرضية النقيضة.
لا يختلف ما فعله كتاب "الأمير" مع كتب تأسيسية أخرى في علم النفس والعلوم القانونية والأنثروبولوجيا، ولو عدنا لفحص الصورة الضمنية للإنسان عند هيغل أو ماركس أو نيتشه في الفلسفة، ولدى غوته وتولستوي في الأدب، ولدى غويا وبيكاسو في الفن التشكيلي، سنقف أيضاً على هذا الانحياز باتجاه هوبز.
أكثر من ذلك، حين نفحص فكرة الديمقراطية - الموضة السياسية للعصور الحديثة - سنجدها قائمة على اعتقاد بأن الإنسان غير أخلاقي وبالتالي ينبغي التضييق على نزعاته العميقة فـ"كل الناس يتحوّلون إلى طغاة إذا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً"، ورغم ذلك تفشل تلك النظريات في تنظيم مجتمعاتها. في المقابل، تنجح في ذلك مجتمعات صغيرة، مثل الفلاح المصري القديم، أو الصيادون في غابات الأمازون، فيجدون الصيغ الملائمة لتنظيم أنفسهم في مجتمع عادل وسعيد. وأين ذلك من مجتمعات تدّعي التفوّق الحضاري، ولنا أن ننظر هذه الأيام في مآلات الانتخابات الأميركية.
لن نعثر في كتاب بريغمان على إجابة تفسّر هذا الميل للاعتقاد في أن الإنسان شرّير، وإقصاء فرضية روسو من المعرفة، حيث يتوقّف الكاتب الهولندي عند الدعوة إلى إعادة بناء مفاهيم مثل الإنسانية والواقعية، فهذه الأخيرة مشحونة بفرضيات لا شيء يثبت صحّتها، وإذا كنا نعيش في عالم مليء بالأزمات فعلينا أن نعيد شحن مثل هذه المفاهيم بتصوّرات جديدة، وهو هنا يقدّم رؤية طريفة بأن المفاهيم ليست مادة صلبة بل هي أقرب إلى طين يمكن تطويعه بحسب ما نعتقده.
لكن لماذا يميل المفكرون إلى الاعتقاد بسوء طوية الإنسان؟ هذا السؤال لا يذهب فيه بريغمان بعيداً، ولعلّ الأفق (المركزية الغربية) الذي يتحرّك ضمنه يمنعه من أن يرى سبب ذلك. وسنجد أن مفكرّاً عربياً تقدّم مدوّنته تفكيراً جدّياً في هذا السؤال، قبل ولادة بريغمان ربّما، حيث كان مصطفى كمال فرحات (1948 - 2020) قد خصّص بعض أبحاثه لنقد فرضيات هوبز، وما شابهها مثل المالثوسية والفاوستية، وأشار بأنها مقولات جرى الدفع بها من أجل تبرير جرائم القلّة في حق البشرية، من جرائم طبقية في الداخل الأوروبي (تفاوت توزيع الثروة) إلى جرائم الاستعمار والحروب لاحقاً.
سكوت بريغمان عن هذا السؤال الذي يثيره بنفسه يقابله ضجيج حول أعماله التي تعرف نجاحات جماهيرية جليّة، وكأنها إشارة إلى رغبة تعتمل اليوم بتغيير العالم، فالأزمات الإيكولوجية والسياسية والاقتصادية والرمزية المتلاحقة باتت تفرز طلباً لا يمكن إنكاره حول هذا النوع من "الفكر المتفائل"، وعلى مثل هذه الكتابة التي تقترح حلولا وتغييرات جذرية ولو كانت لا تقترح أكثر من تغيير زاوية رؤية العالم والتاريخ.
يبدو بريغمان اليوم - على حداثة سنّه - في موقع متقدّم في استشعار هذا الطلب، وربما لذلك هو من أنجح من يستثمر ذلك تسويقياً؛ إنه كاتب يسحر العالم بتفاؤله، وقدّم وصفات لترميم ثقة الكائن البشري بنفسه، ومن ذلك أطروحة هذا الكتاب الأخير، والذي يقول فيه بصريح العبارة: في حال أخذنا بجدية أن الإنسان طيّب في الأصل فإن هذا يعني "ثورة" وبداية لتاريخ آخر. ما الذي يمنعنا من دخول اللعبة؟