لا يُخفي رياض نجيب الريس (1937 - 2020)، رغبته بعد نحو ثلاثين عاماً في تقديم طبعة ثانية من كتابه "الفترة الحرجة: نقد في أدب الستينات"، باسترداد قيم عصر حرية التعبير والتعددية وحرية الاختيار، كما يسمّيه، مقارنة بـ"عصر الظلمات" الذي نعيشه اليوم، بحسب وصفه أيضاً.
الناشر والكاتب والمثقّف السوري اللبناني الذي رحل يوم أول أمس السبت بسبب إصابته بفيروس "كوفيد -19"، واجه الحروب والصراعات الأهلية والطائفية والتعصّب والرقابة على طريقته؛ انهمك بشكل دؤوب في مشاريع كثيرة مبتدؤها القارئ ومنتهاها كذلك، في حماس وإصرار لا ينتهيان، إلا أنه في الوقت نفسه لم يغب عنه الواقع العربي راصداً انحداره المتسارع نحو قاع لا حدود له.
أسّس الراحل مجلّات "المنار" و"الناقد" و"النقاد" ودار النشر التي حملت اسمه و"مكتبة كشكول" ولازمته أحلام أخرى لم يتمكن من تحقيقها، لكنه لم يستسلم للعبة الخضوع السياسي والمهني، في زمن هجاه في أكثر من حوار صحافي ورأى أن علّته الأولى كانت في سقوط الحرية، والردّة إلى القبيلة، ومصادرة الإسلام عبر تقييده بالدولة والسياسة.
آمن بالكلمة ولم يستسلم للعبة الخضوع السياسي
في كتابه "الفترة الحرجة: نقد في أدب الستينات"، يقول: "لقد أصبح الإنسان المثقف، والكاتب الموهوب، والرجل الخلاق، والفنان الأصيل هم الغرباء عن أورشليم، وانهارت جدران أريحا، ولم يعد الدخول إلى ملكوت الأدب يحتاج إلى أكثر من صك غفران من وزير أو مدير بنك أو محرّر في جريدة...".
لا تفترق تساؤلات الريّس وتأمّلاته عن رؤيته للأدب وتحليله لعشرات النصوص العربية، تشمل نجيب محفوظ وجبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني وحليم بركات وتوفيق صايغ ومحمد الماغوط وأدونيس وصلاح عبد الصبور وغيرهم العشرات، وهي تتوافق مع فهمه لمهمة النقد التي لا تعني بالنسبة إليه البحث عن حكم منصف على نص، إنما "الوصول إلى تجاوب معيّن مع العمل الأدبي، يستطيع أن يخرج منه الناقد بحسّ ما، يلمسه ويعيشه ويكوّنه. وهذا الحس هو الذي يصنع العمل الأدبي ويسهّل بل يحقق مهمة الناقد".
في سرده الممتع والمتدفّق معنى وجمالاً، يطلق صاحب "صحافي ومدينتان" آراءه الناقدة الصريحة حيث يكتب "ولما كان أنسي الحاج شاعراً ذكياً وشريراً، فهو شاعر عبثيّ، لا مبال، وهروبيّ إنما هو في هروبه وعبثه ولامبالاته شاعر جريء، فالكلمة الجارحة التي لا تحمل أي معنى عنده هي كلمة مقصودة..."، أو في القول إنه من المؤسف أن يُصدر سهيل إدريس قصّتيه "العصفور القطني الأصفر" و"التفاحة" بعد حوالي خمس عشرة سنة من المجد الأدبي.
ويدوّن الريّس مواقفه وأفكاره التي أتت نتاج شخصيات عديدة صاغت زاوية نظره، إذ لا يغيب الشاهد الذي يقدّم شهادته على مرحلة بعين حاذقة، فموت السيّاب - مثلاً - قد أصبح ضرورة ملحّة في السنوات الأخيرة، من أجل الشعر وتاريخه، ومن أجل بعض "أصدقائه" الشعراء بالدرجة الأولى، ثم يختم حديثه بالتساؤل: "عندما كان بدر شاكر السياب يكتب قصائد، من كان يحوك المؤامرات ضدّه، بل من قتل بدر شاكر السياب"؟
ويحضر أيضاً القارئ الذي يعي جيداً أهمية الأدب والفنون ودورها في التغيير، حيث أورويل يلامس حاجة النفس العربية العطشى دائماً إلى القليل من التشاؤم البنّاء، أو في حديثه عن طغيان السياسة الذي جرف بتياره ناقداً كغالي شكري، وأفسد عليه الكثير من المسالك، وبحيث لم يعد يرى الشعر والشعراء إلا من خلال هذا الطغيان، فوقع وأوقع معه الشاعر الفرد ضحيّة السياسة، أو انهيار الجدار الأخير وإذ العالم الحقيقي هو عالم اللاجئين.
عرّف الريّس نفسه صحافياً بالدرجة الأولى، حين اكتشف باكراً أنه لا يملك صفات الشاعر، وإن بقي في صف الشعراء متابِعاً وصديقاً وناشراً لأعمالهم، فاتجه نحو الصحافة كما فهمها ومارسها وآمن بها بيتاً وملجأ ومعنى نهائياً حتى الرمق الآخير.