"فجأةً، يُدرك المرء أنَّ الموت هو أيضاً جزءٌ من العملية الطبيعية للأشياء التي تحيط بنا. فجأة نختبر ذلك بطريقة قريبة جداً، بطريقةٍ روحيّةٍ وجسديّة، بشكلٍ أو بآخر. لقد جعلتني كارثة تسونامي في فوكوشيما أشعر أنني شيءٌ صغيرٌ في هذا العالم الكبير الذي يحيطُ بنا، لقد جعلني علاج مرض السرطان - الذي أداوم عليه من زمن ليس بالقصير - أشعر بضخامة وهول كل ما يحيط بنا في هذا الكوكب". بهذه الطريقة، أجاب الموسيقار والملحّن الياياني ريويتشي ساكاموتو، الذي فارق عالمنا قبل أيام (1952 - 2023)، عن أسئلة أحد الصحافيين عام 2017، قُبيل حفل تقديم الفيلم الوثائقي "قصيدة ريويتشي ساكاموتو"، الذي أخرجه ستيفان مومورا.
لم يكن الفيلم، آنذاك، سيرةً ذاتية، أو يوميات أو أي شيء من هذا القبيل. أراد ساكاموتو أن يقدّم كل لحظة من لحظات حياته بروحٍ دعابيّة راديكاليّة، وبسعادة عارمة، دون أن يعطي تفسيرات لأحد. كنّا نعلم آنذاك أننا أمام واحدة من أهم المواهب الموسيقية في نصف القرن الماضي، وكان متابعوه يعلمون أنَّ لحظة موته تقترب، خصوصاً لأنه لم يتردّد في الكشف عن حالته الصحية للصحافة في أكثر من مرة. غير أن قدرتنا على التنبؤ لا تلغي أهمية الأمر.
ما لم يتمكّن منه سرطان الحنجرة الذي أصيب به أوّل الأمر، تمكّن منه سرطانٌ آخر انتشر في جسده. هكذا، في بيانٍ صدرَ على موقعه الرسمي في الثاني من الشهر الجاري، أعلن فريق عازف البيانو والملحّن والموسيقي الياباني عن نبأ رحيله في الثامن والعشرين من الشهر الفائت، عن عمر يناهر 71 عاماً، بعد صراع مرير مع المرض. وقد ذكر البيان أنَّ "ألف سكّين" (1978)، قد "دُفن في جنازة خاصّة لم تحضرها إلّا عائلته القريبة، امتثالاً لرغبته. لقد عاش ساكاموتو مع الموسيقى حتى آخر لحظات حياته".
عُرف بنشاطه لصالح عددٍ من القضايا الاجتماعية، مثل البيئة
وُلد الفنّان عام 1952 في ضاحية ناكانو قرب طوكيو، ومنذ صغره كان موهوباً ومولعاً بقراءة الكتب. عزف البيانو بدءاً من سنّ الثالثة، وكان قادراً على فهم أي محادثة بالإسبانية ولغات أخرى لم يدرسها أو يمارسها من قبل. اهتم بموسيقى الجاز في مراحله الأولى، لكنه ما إنِ اكتشف فرقة "كرافت فيرك" الألمانية حتى شُغف بالموسيقى الإلكترونية وتخصّص بها. أسّس في بداياته، عام 1978، مع هاريومي هوسونو ويوكيهيرو تاكاهاشي، فرقة "الأوركسترا الصفراء السحرية". اشتُهرت الفرقة بموسيقى البوب الإلكترونية التي تركت أثراً واضحاً على موسيقى التكنو والهيب هوب والجاي بوب، وعلى ألحان ألعاب الفيديو الأولى في بلده. وسرعان ما وصلت الفرقة اليابانية إلى العالمية، واشتُهرت بعض أعمالها في الغرب، مثل "وراء القناع" (1987)، التي غنّاها مايكل جاكسون وغيره.
مع انفراط عقد الفرقة عام 1984 (وهو توقّفٌ مؤقت، ستعود وتُشكَّل الفرقة من بعده مع عازفين آخرين)، بدأ الملحّن الياباني مسيرته الفردية، حيث أصدر عدداً من الألبومات، مثل "فيوتشيريستا" (1986)، و"جَمال" (1989). حدّدت الانتقائية في تلك الفترة خيال ساكاموتو الإبداعي، وهذا ما يفسّر مشاركته في الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام الشهيرة، مثل "عيد ميلاد مجيد يا سيد لورانس" (1983)، لناغيسا أوشيما، إضافة إلى رفقته لمخرجين عالمين مثل بيدرو ألمودوفار.
غير أن شهرته بلغت أَوْجَها عندما حصل على جائزة "أوسكار" عام 1988 عن أفضل موسيقى تصويرية لفيلم "الإمبراطور الأخير" للإيطالي برناردو بيرتولوتشي، الذي تعاون معه في مرّات عدّة، من بينها في فيلم "السماء الواقية" الذي صُوِّر في صحراء ورزازات بالمغرب عام 1990.
لم يكن ساكاموتو شخصاً محايداً، بل جريئاً بالمعنى الفنّي والسياسي للكلمة. لطالما عبّر عن رأيه بحرّية وشجاعة أمام الصحافيين. كما أنه كان ناشطاً بارزاً لصالح عدد من القضايا الاجتماعية الكبرى، مثل حماية البيئة. إضافة إلى كونه من الشخصيات البارزة في الحركة المناهضة للأسلحة النووية في اليابان، بعد كارثة فوكوشيما في آذار/ مارس 2011.
بعد معاناة مريرة مع مرض سرطان الحنجرة في عام 2014، ثم سرطان المستقيم في صيف العام الفائت، قرّر ساكاموتو أن يكتب يومياته التي حملت عنوان "12"، وهي مجموعة من الملاحظات والخطوط العريضة والتسجيلات الجميلة والهشّة التي تُسمع فيها أنفاسُه المنهكة، كاستعارةٍ واضحة على الموت المحتّم (كانت آخر ملاحظة مدوّنة في دفتر يومياته بتاريخ الرابع من نيسان/ إبريل 2022). صحيحٌ أن ريويتشي ساكاموتو لم يعش طويلاً، لكنْ يصعب علينا تخيُّل حدٍّ لطول عمر فنّه.