استمع إلى الملخص
- يتناول النص مشاهد الحياة اليومية المليئة بالحزن والفراغ، مع تفاصيل بسيطة مثل خبز العجين وإشعال النار، بينما يظل الخوف حاضرًا بين الناس الذين يحاولون التغلب على الكآبة.
- يختتم النص بتأملات حول الطبيعة والكون، حيث يعبر عن الفراغ والقهر في البيوت والحياة، مما يعكس حالة من الضياع في عالم مليء بالتناقضات.
كيف أكتب عن الحرب وقد امتلأت أنفاسي بأصوات القتلى؟!
كيف أكتب عن الجنود الغاصبين وقد فاحت الكراهية من بنادقهم؟!
سأُغمض عيني!
كلّ قطرة ماء، في غيمة، في نسغ شجرة، في قلب حجر، في عينٍ عاشقة ـ في قاع بئر:
تركض حين تصل، إلى حقول وأفلاج.
فرحانة مثل قرنفلة حمراء. شفيفة مثل سماء صافية. ودودة مثل قمر وضّاء. صبورة مثل كلّ الرمال التي مسحت على جسدها.
■
مدن مُنهكة،
نصحو فيها
نستنشق روائح الفقر ودخان القنابل
نبحث عن
نوافذ ليست موجودة
حياة دمّرها الغُزاة والثوريون الخونة
في آخر النهار
نضع ابتساماتنا على وجه حرقته الشمس
ننتظر ميتة سهلة.
■
تتعبُ الشمس في ملاحقة ظلال الشجرة.
يتعب العجوز من الجلوس على مقعد الحديقة.
يتعب النهار من سماع هدير البحر.
لكن الساسة الذين يأكلون الأحياء
لا يدفنون الموتى، لا يتعبون.
■
ما الذي تبقّى،
فقد غادرت الطيور أعالي الأشجار؟!
حبلٌ يتأرجح على سارية العلم،
أصداء صيحاتنا تسقط على الأرض،
واحدة واحدة.
ما أثقل الحزن على الفؤاد!
■
من نافذة المطبخ، الجالس قبالة الشمس،
ينظرُ إلى حياة هربت.
السيّدة خبزت العجين، أشعلت النار في التنّور.
البغل وصاحب البغل، رجعا من الحقل.
ليلٌ طويلٌ قارس قاس.
■
ها قد ربطتَ ساعة ذهبية حول رسغك،
علّقت نيشان الشجاعة على صدرك،
ثمّ مشيتَ رهنتَ روحك إلى ظلمة موحشة،
استرح قليلاً قبل أن تقفز قفزتك الأخيرة.
■
العجوز تركتْ سطل الحليب في الحظيرة.
كأنّ أحداً نادى عليها،
كأنّ بيرقاً يخفق في الهواء خطف بصرها.
الخوف كائن يتنفّس مثلنا.
■
نكبرُ، لأن أحزاننا تكبر،
لأن ضحكاتنا تسقط على الطريق.
يا ليَدِي، هاته التي قطفت الزهرة!
■
كيف تتغلّب على الكآبة؟
- أحذف الزورق المقلوب على الرمل، أضع مكانه شجرة.
أحذف نافذة الغرفة العلوية، أضع مكانها صورة الشهيد.
- هل هذا يكفي كي تشعر بالسكينة؟!
- أدخل البيوت أجمع صور الناس من الحيطان،
اًضعها أمامي، أحدّق فيها طويلاً.
■
لن يقدر الليل على إخفاء وجوه الجنود
لن تقدر الكلمات على إخفاء وجوه القتلى
الكراهية سكبت صهارة الحديد
الأرض كرة نارٍ
الكراهية دائماً تأتي كاملة
الحب دائماً يأتي ناقصاً.
■
لكي تسقط الثمار على الشجرة أن تميل قليلاً
لكي يحلّق الطائر على الجناحين أن يتقوّسا قليلاً
لكي تتلافى السحلية الخطر على الرأس أن يرتفع قليلاً.
■
مثلما للقميص أكمام للأرض أكمامُها
الشمس تظهرها
الظلال تهبها الفخامة والأبّهة
لكنها في رحلتها الأبدية لا تقف على بابٍ
ولا تتمهّل لتسمع صوت الأغنية.
■
الألوان حيرة الكلمات.
يمكن قياسها: بالأصبع، بالذراع، بالقدم، بالقامة، بالفرسخ،
أو بصدى الصرخات.
■
لقد وصلت الحمحمة ولم يصل الحصان!
غاصت أقدامه في رمل رجراج. خطفته الجِنّ. تصدّع قلبه حزناً. صار أعمى. لم يره أحدٌ في برّ أو بحر.
■
"الكمان على الكتف، الخلخال يحيط بالكعب. له أن يفيض بالألحان ولي أن أدقّ بقدميّ أرض هذا الحوش الضيّق إلى آخر الزمان!"، قالت الفتاة محدّقة في وشم على ظاهر يدها.
الشمس المنعكسة من عتبة الجامع، تَسقط على فستان الساتان الأحمر، بينما يدُ الرجل تُسقِط حبّات المسبحة في تناغم حلو مع أغنية عبد الوهاب: "سهرتُ منه الليالي".
كم مرّة مشى في هذا الزقاق؟ كم مرّة خدّرته رائحة طبق الحرايمي من نافذة عالية؟ كم مرّة خفق قلبه أمام بابها؟ هو ليس أكثر من ولد يخاف الشوارع الواسعة.
■
هذا الصباح الخريفي المطمئنّ
أقرأ قصائد لشعراء من أقصى الأرض،
لا شيء فيها يُشبهني أو أُشبهه.
التفتُّ ناحية المبنى المهمل، أتساءل هل من شيء مشترك بيننا؟
مبنى صار بيتاً لـ:
أزواج من الصقور المحلّية
شجرة سنط تؤوي هداهد تقضي نهارها في حديقة المدينة الأثرية
ركن سور قصير بيتاً لقطّة كبيرة بذيل منقّط
أزواج عديدة من الحمام تطير بالغدوّ والآصال
صوب أشجار هيكل ماركوس أوريليوس
طيور بوم نهارية، دائماً تختار بقعتها فوق السور قبالة الشمس
نخلة تزورها الزواحف والخنافس طوال السنة
نوارس تقف على سطحه تفعل ما يفعل النوارس
بناية يرتادها باحثو الخردة والأطفال المغامرون
بناية لا تعبأ بالقصائد والشعراء
حقّاً لا تشبهني ولا أشبهها
أنا مبنى مهمل خالٍ من الكائنات!
■
لا أكاد أُميّز بين صوت تلاطم أمواج البحر في أوّل هذا الخريف
وأصوات طفولة دحرجها الزمان في طيّة من طيّات الوجدان!
"البحر لا ينام"، تقول أُمّي، تضع أسماك السردين
المقطّعة بعناية على سفرة الخشب القصيرة الأرجل
"لو فرغ البحر من أسماكه يموت"، تقول وهي تقلّب السردين في دقيق ناصع البياض
"ليس هناك دقيق أكثر رقّة ونعومة وبياضاً من دقيق خمسة زيرو"، يقول أبي جالساً بجانب أمي يُشذّب بمقَصٍّ صغير شاربه
"لا يتأخر الخريف عن المجيء، تجرّه غيومُه المجنّحة"، تقول أمي، تضع السردين في المقلاة
"ستأتي العربات المحمَّلة بالرمّان الأحمر، سنغفر للخريف جنونه"، يقول أبي ماسحاً على شاربه المائل قليلاً، جهة اليسار.
■
لم أتكلّم بعدُ عن البئر
عن عين الماء التي دلّت العطشى إلى قلبه
أليس هذا ما يفعله القمر،
يبحث عن يدٍ يخبرها عن القوس والسهم
هي زلزلة وحسب تجعل
الغرقى يركضون
كلّ الأرض تركض.
■
يأخذون الجنود إلى الحرب قبل طلوع الشمس
لكنهم يعودون، في صناديق ذخيرة، بأطراف مبتورة، بقلوب فارغة، أو أرقاماً منقوشة على قلادة ملساء لمّاعة، أو داخل حفرٍ في قفارٍ مغبرّة موحشة.
دائماً تمدّ الأرض يدها إلى السماء ولا تصل!
■
"رأيتُ جسدك في فم البلدوزر الحديدي هشّاً
رأيتُ الهدهد ينظر إليك من على السور القريب
ذيله يهتزّ
قلبه يصبّ فيه نهر حزن
البحر يركض إليك
حجارته تسبقه
نوارسه تسبقه
الكائنات تشيّع جسدك الهشّ
لا شيء في المكان الآن سوى
وحشة ثقيلة خانقة!".
■
الكلمات حجارة تتبع بعضها. الكلمات موت فوق موت. الكلمات تخفي أجساداً وراء أجساد.
ماذا أكتبُ على حائط لا أملكه؟
الحائط يكتبه العابرون، يضعون أسماءهم داخل دوائر تترنّح.
رأيت المُزارِع يلوّح بمنجله من آخر الحقل. سمعتُ جِوار الباب، همْسَ الفراشة تُعاتب قلبها.
الرمل
النسيان
الشجن
الفتى العريان
الزورق
أخذهم الغياب.
أهكذا يتأرجح الموت
بين الحرّية والأبدية؟!
■
الأصفر للسنابل في الحقل. الأخضر لشجرة التين.
الأزرق للصبح
للبحر.
الكون
ينصت إلى حفيف الهواء ينسلّ من أكمام الأغنيات
نوافذ وجسور لا تنتهي. ما أكثر مرايا الشوارع!
■
تنظر إلى أين؟
إلى حياة باهتة
بيتٍ قشّره الوقت
قِدرٍ لا يدخله الطعام
سجنٍ كبير اسمه القهر
"البئر لا تأتي إلى العطشان" قالت جدّتي
"الدنيا كتفا أُمّي" قال الرضيع
ما أكثر الفراغ في هذه البيوت
لا يزورها مطر ولا ظلال!
* شاعر ومترجم من ليبيا