لا أُنكِر شُعوري بالرهبة وأنا أتلصّص بحذرٍ على مكتبة توماس مان (1875 - 1955) الخاصة، ومنضدته التي كتب عليها أعمالاً كـ"آل بودنبورك" (1901)، و"الجبل السحري" (1924)، و"دكتور فاوستوس" (1947)، في المعرض الدائم الذي يُقيمه "المعهد الفدرالي للتكنولوجيا" في زيورخ لمتعلّقات الروائي الألماني الحائز على "جائزة نوبل للآداب" عام 1929. مُتعة ورهبة اكتشاف شكل أثاثه والعدسة المُكبّرة خاصته وصور عائلته لا سيما صور أطفاله، والكتب المُتراصّة التي تضمّ ما يقرب من 4300 عنوان، عدا عن الجرائد في لغات متنوّعة، وأعماله المترجمة للإنكليزية والفرنسية ولغات أُخرى. القارئ المحبّ لأعمال مان لا بدّ أن يشعر بنشوة وكأنّ شخصيات رواياته حاضرة أمامه في تلك الغرفة الحمراء المُفعمة بالزخرفات والصور والكتابات.
أثناء مشاهدتي لهذا الأرشيف والمقتنيات، رافقني في تلك الغرفة الحمراء الموسيقار أدريان - الشخصية الرئيسة في رواية "دكتور فاوستوس" ـ الذي يُحاول تأليف أوبرا موسيقية، ويُساوم على روحه مقابل أن يتحلّى بعبقرية لا مثيل لها بتأليف الموسيقى، ويمقت ألمانيا وتاريخها المُظلم. لكن ما أثار اهتمامي فعلًا هو رؤيتي لطبعة أولى من روايته الأشهر "آل بودبنروك" رأيتُ كرستيان بودنبورك وانهيار عائلته البورجوازية، وتذكّرت الرواية ونقدها اللاذع لصورة الحياة البورجوازية الألمانية في القرن التاسع عشر.
يشعر الزائر وكأن شخصيات رواياته حاضرة في تلك الغرفة الحمراء
إن أحد أسباب عرض هذه المقتنيات والأرشيف في "المعهد الفدرالي للتكنولوجيا" يعود للعلاقة الجيّدة بين عائلة مان وكارل شميد، رئيس "الجامعة الفدرالية السويسرية" في زيورخ بذلك الوقت. حيث شكر توماس مان عميد المعهد في رسالة كتبها بتاريخ التاسع من حزيران/ يونيو 1955 على الاهتمام الذي لم يتوقّعه، وكتب فيها: "أن أكون الآن مُرتبطًا بـ'الجامعة الفيدرالية' شرف أتغنّى به إلى الأبد".
وعندما رحل مان بعد شهرين في زيورخ، واصلت أرملتُه كاتيا علاقة الصداقة مع "المعهد الفدرالي للتكنولوجيا" في زيورخ. وأشار نجله غولو مان إلى أن قرارهم كوَرَثة بالتبرُّع بأوراق وكتب وأرشيف مان ومقتنياته الشخصية بأكملها إلى سويسرا كان بمثابة تحقيق لرغبة توماس مان: "كان قلبه ملكًا لسويسرا. وكان عنوانه الأخير هنا؛ وكانت ذاته هنا". وبعد عام واحد فقط من وفاة توماس مان، وقّع "المجلس الفيدرالي السويسري" على صكّ التبرُّع وأسّس "المعهد الفدرالي للتكنولوجيا" في زيورخ أرشيف توماس مان.
في الحقيقة كانت زيورخ سبباً مُهمّاً لبقائه على قيد الحياة في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية: كان توماس مان منفيًّا في كوسناخت، وهي مقاطعة صغيرة في زيورخ، من عام 1933 إلى عام 1938. وفي تلك الأثناء أقام صداقات مُهمّة، مثل صداقته مع الناشر إميل أوبريخت الذي عُرِف بدعمه للكُتّاب المُضطهَدين. وبعد نفي توماس مان من الرايخ الألماني، قام بنشر بيانه السياسي ضدّ "الاشتراكية القومية" بشجاعة، تحت اسم "مراسلات بون"، لا سيما بعد ضمّ النمسا إلى الإمبراطورية الألمانية، ليُهاجر من بعدها إلى الولايات المتحدة الأميركية لفترة طويلة. لكنه يعود إلى سويسرا مرّة أُخرى قبل سنوات من رحيله.
رحل توماس مان في الثاني عشر من آب/ أغسطس 1955 في "مستشفى كانتون" بزيورخ، ودُفن في كيلشبيرغ مكان إقامته الأخير، لقد تحقّقت أمنيته، التي عبر عنها بالفعل في رسالة: "أُريد أن أُدفَن في سويسرا، لا محالة".
* كاتب من فلسطين