تُلقي هذه الزاوية الضوء على موقع إلكتروني لمبدع عربي من خلال فضاء استحدثته التكنولوجيا وبات أشبه ببطاقة هُوية للكتّاب. هنا وقفة عند موقع الباحث التونسي محمد صالح العمري، أستاذ الأدب العربي والمقارن في "جامعة أوكسفورد" البريطانية.
قلّما نجد حضوراً لثقافة إطلاق المواقع الإلكترونية الشخصية بين الباحثين العرب، ولعلّ في ذلك سبباً آخرَ من أسباب عزلة المعرفة في ثقافتنا، حيث أن الموقع الإلكتروني يمثّل إضاءة مكثّفة على منجزٍ بعينه، كما يربط الزائر بعدّة حقول علمية وإشكاليات ومفاهيم تمثّل المساحة التي يتحرّك ضمنها الباحث. من المبادرات العربية القليلة في إنتاج مادّة إلكترونية بحثيّة، نقف على موقع الباحث التونسي محمد صالح العمري (mohamedsalahomri.com)، أستاذ الأدب العربي والمقارن في "جامعة أوكسفورد" البريطانية. وسنجد ضمن تبويبات الموقع تعريفاً موسّعاً بانشغالات الباحث، فنقرأ في خانة "مشاريع" عن عمله على الأدب والعدالة، والتاريخ والأدب، ومدوّنة محمود المسعدي، والآداب التونسية عموماً.
كما سنتعرّف ضمن خانة "إصدارات" على مؤلّفاته، ومعظمها بالإنكليزية، ومنها: "المسألة الوطنية والإسلام والأدب العالمي: مواقع التقاء في كتابات المسعدي" (روتليج، 2006)، و"التبادل التجاري والثقافي في البحر الأبيض المتوسط أوائل العصر الحديث: الإرث البحري لبروديل" (توريس، 2010) بالاشتراك مع المؤرّخين ماريا فوسارووكولن هيوود، و"الترافد بين العمل النقابي والثقافة والثورة في تونس" (2016).
في حديث إلى "العربي الجديد"، يعود العمري إلى بدايات تفكيره في إطلاق موقع خاص. يقول: "بدأت الفكرة منذ سنوات، يُحرّكها عاملان، أوّلهما الإحساس بأن التواصل أو الحضور الورقي أو عبر مواقع متفرّقة ولغات متعدّدة يضاعف تجربة الشتات التي أعيشها. أما الوازع الثاني، فهو رغبة في وضع كتابات وأفكار ومحاولات بحثية وتدخّلات في الشأن العام على ذمّة القرّاء دون الحاجة إلى اقتناء الكتب والمقالات من ناحية، ومن ناحية أخرى دون مشقّة البحث في مواقع متعدّدة. أي أن الموقع يقدّم نوعاً من القُرب من القارئ والمشاهِد".
يساعد الإنترنت في خلق توازن نسبيّ بين الشمال والجنوب
يفسّر العمري عدم وجود تقليد لدى الباحثين بإطلاق مواقع أسوة بالفنانين بقوله: "ربما بسبب مسألة التخصّص ومحدودية القارئ المختصّ، يكتفي أغلبهم بالقنوات المألوفة للبحث العلمي من دوريات وكتب وغيرها. وربما كذلك لأن الجامعيين عادة ما يرون أن إنتاجهم الموجّه لعموم الناس ــ إن وُجد ــ غير مرتبط بالاختصاص العلمي ويدور في مجال مختلف".
يقودنا ذلك إلى الوقوف أمام علاقة الباحثين العرب بشبكة الإنترنت على مستوى الاستفادة منها لنشر مقولاتهم ونتائج أبحاثهم. هنا يرى العمري أن "شبكة الإنترنت أحدثت ثورة فعلية في مجال البحث العلمي"، مضيفاً: "أعتبرها فرصة لخلق توازن، ولو نسبيّ، بين الشمال والجنوب. ولذلك أسعى إلى النشر المفتوح وسهولة الحصول على المعلومة، وأدعو الباحثين العرب وباحثي الجنوب عموماً إلى استغلالها لتوصيل إنتاجهم المعرفيّ إلى خارج الدوائر التي ما زال يحكمها العقل الورقيّ، إن صحّ التعبير. وفي هذا إفادة واستفادة تشبه إلى حد بعيد نوعاً من التبادل العينيّ (barter) في زمن سيطر فيه اقتصاد السوق وسلعنة المعرفة".
يتذكّر العمري الأهداف الأولى التي جالت بخاطره وهو يفكّر في إنشاء الموقع. يقول: "قضيت فترة طويلة في التفكير بالموقع وبناء تصوّر له يفي بما أريد من ناحية، ويبتعد نسبياً عن العرض المملّ لسيرة ذاتية علمية، من ناحية ثانية. هنا أعود إلى مسألة الشتات. بحكم تجربتي الشخصية والمعرفية، لا أشتغل في حقل محدّد أو داخل نطاق الجامعة فقط. كما أن مصادري متعدّدة اللغات. ففكّرتُ في إبراز الخيوط التي تربط هذه الاهتمامات أو هذه الذوات، إن صحّ التعبير، ويحترم تنوّعها في نفس الوقت. من هنا جاءت فكرة تحويل مفهوم الترافد الذي اشتغلتُ عليه في حقل الأدب المقارن والأدب العالمي إلى نوع من المنهجية تؤطرالموقع ككلّ. وفي الواقع، أعرّف الترافد على أنه كلمة ذات معنى خاصّ منحوت من العربية ولغات أخرى. فكلمة confluence، بمعنى التقاء أو تجمّع رافدين أو أكثر، والسّيلان والجريان والفيضان المشترك، تدلّ أيضاً على المكان الذي يلتقي فيه نهران أو أكثر".
يضيف: "أمّا القواميس العربية الرئيسية، فتخبرنا أنّ الجذر 'رفد' يحيل على معانٍ شتّى منها: رافد: أي نهر يصبّ في آخر ويزيده؛ ترفيد: أي تمتين؛ مِرفاد (بكسر الميم، مثل مغزار أو مدرار) ومرافيد التي توحي بالوفرة والكرم. ونجد أيضاً الرفد بمعنى الفيض من الكرم والمساعدة. هنا أستعمل الترافد بمعنييْه الغربي (اللاتيني) والعربي، في مزيج لساني ومفهوميّ يحافظ على معنى السيَلان أو الانسياب. كما يوسَّع المعنى العربي بإضافة مفهوم الرفد المتبادل، بمعني الجريان مع أو الجريان المتزامن، ويتضمّن ذلك معاني الاختلاط والإضافة المتبادلة والتراصف والتكاتف. ولذلك فالموقع وقع تصوّره في شكل رحلة تحتوي على محطّات واستراحات يمكن للمتصفّح (أو المُبحِر) أن يتوقّف عند ما راق له منها، فيقرأ أو يقوم بتنزيل نصوص أو التعليق عليها أو النظر في صور وموادّ سمعية بصرية. والموقع يشمل مشاريع بحثيّة وكتابات متفرقة ومقالات صحافية ومسودات في مجالات منها الآداب التونسية أو كتّاب بعينهم مثل محمود المسعدي أو أبو القاسم الشابي، أو تدخّلات في الأدب المقارن، وندوات وحوارات في مجالات الجامعة والمجتمع ومقالات سياسية... ولكلّ ذلك، أعتبره بيتاً مفتوحاً لمَن أراد الزيارة دون التزامات أو بروتوكول معين أو شرط التخصّص. وضمّنتُه أيضاً كتابات غير مكتملة، ربما لن أجد الوقت أو الجهد لإتمامها، فأخرجتها على علّاتها".
ما يزال العقل الورقيّ مهيمناً على معظم الإنتاج البحثيّ
يلفتنا في موقع محمد صالح العمري أنه موقع إنكليزي اللسان أساساً، رغم أن موضوعَ عدد كبير من مواده عناصر من الثقافة العربية. يفسّر الباحث التونسي هذا الخيار: "الإنكليزية هي لغة أغلب إنتاجي العلمي باعتبار تكويني وعملي في جامعات إنكليزية وأميركية. ولكنّ المحتوى متعدّد اللغات. وقريباً سوف أطلق النسخة العربية للموقع. وبذلك ربما أقترب من الغاية الشخصية والطموح الفكري والحضاري للموقع".
سألنا محدّثنا إن كان يعتبر المواقع الإلكترونية منتجات ثقافية قائمة بذاتها، مثلها مثل الكتب مثلاً، فأجاب: "هي كذلك. اشتغالي على الموقع أخذ منّي - ولا يزال - وقتا وجهداً لا يقلّان عمّا يتطلّبه إنتاج كتابٍ. كما أن الرؤية التي حاولتُ وضعها للموقع تقدّمه كمادة ثقافية ومعرفية تسعى إلى التكامل والإفادة والإمتاع في نفس الوقت. ولذا أرى أنه منتوج ثقافي خاصّ ويسعى إلى النوعيّة أكثر منه إلى الكمّ. وبودي أن يساعدني زوّار الموقع على تجويده وتطويره".
يجد متصفّح الموقع إضاءة على مجالات تخصّص العمري، وبما أن عدداً غير هيّن من إصداراته كانت جماعية، فهو يفتح على مشاريع بحث بالمعنى الأوسع من الجهود الفردية. فهل يمكن لمواقع الباحثين أن تمثّل مرايا عاكسة وفيّة لراهن المجالات التي يشتغلون ضمنها؟ يقول العمري لـ "العربي الجديد": "من الناحية البحثيّة البحتة، هذا الموقع يجمع في مكان واحد أهمّ إنتاجاتي واهتماماتي العلمية ويبوّبها في شكل محاوِر كبرى. كما يقدّم جرداً لأغلبها. وهذا فعلاً مهمّ ولا يمكن تحقيقه بدون الإمكانيات التي تطرحها التكنولوجيا. من هذه الناحية يمكن اعتبارة مرآةً شاملة تعكس جوانبَ يصعب جداً حصرها في كتاب أو حتى مجموعة كتب. ولعلّ هذه القيمة، أي الشمولية، هي التي جعلتني أفكّر في النشر المباشر على الموقع دون وساطة. وقد بدأت ذلك بنشر مسودات ومقالات غير مكتملة وأنوي المرور بعدها إلى مرحلة النشر الإلكتروني في شكل كتب أو كتيّبات مجانية".
يلاحظ زائر الموقع حضور قضايا بعينها مثل العدالة المعرفية والربط بين الثقافات. سألنا العمري: هل أن التكنولوجيا الحديثة قادرة على إخراج هذه المقولات من نخبويّتها؟ يجيب: "أرى أن الاستعمال اليقِظ للتكنولوجيا يمكن أن يحوّل المقولات التي ذكرتَ إلى برامج عمل تجسّر من خلالها الأجيال والمنطلقات الثقافية بطرق مبتكرة وسريعة. ويجد المتصفّح لموقعي أمثلة أو محاولات لتنزيل هذه المقولات على أرض الواقع، مثل مشروع المعرفة بين المحلّي والكوني. المهمّ في هذه اليقظة هو الانتباه إلى تعدُّد مصادر المعرفة من ناحية، وإلى الإيمان بأن كل معرفة، مهما كانت محلّيتها أو درجة حضورها، هي جديرة بالاحترام والنقد في نفس الوقت، من ناحية أخرى".
مضت أشهر على إطلاق الموقع، فكيف يقيّمه صاحبه، على مستوى تفاعل الزوّار معه؟ يقول: "بلغ عدد زوّار الموقع ما يقارب الخمسة آلاف، وهو عدد محترم نظراً لطبيعة الموقع والغياب التامّ للبعد التسويقي. وأعتقد أن ترجمته إلى العربية سوف تعطيه دفعاً. كما أنوي الاهتمام به أكثر، خصوصاً من الجانب المتغيّر أو المتجدد، أي المدوّنة (بلوغ)".