مرّت قبل سنتين الذكرى المئوية لتأسيس يوغسلافيا (1918) التي كانت تغطّي معظم ما يسمّى اليوم بغرب البلقان، والتي ولدت نتيجة حروب (حرب البلقان الأولى والثانية، والحرب العالمية الأولى) وانهارت إثر سلسلة حروب امتدت بين عامي 1991 و1999 وتمخّضت عنها سبع دول. بين هذين التاريخين، كانت يوغسلافيا مملكةً أوّل الأمر، ثم اختفت من الخريطة بين عامي 1941 و1945، لتظهر من جديد كجمهورية فيدرالية تحت حكم الحزب الشيوعي (1845-1990)، ثم تشهد مع انهيار جدار برلين انبثاقَ الديمقراطية والقومية الإثنية العابرة للحدود القائمة، والتي تسبّبت في اندلاع سلسلة حروب جديدة.
في هذه الخريطة الكبيرة التي جمعت إرث أوروبا الوسطى الثقافي (الإمبراطورية النمساوية المجرية) في الشمال والإرث الثقافي الشرقي (الإمبراطورية العثمانية)، عاشت وتعايشت وتصارعت أديانٌ وثقافات وسياساتُ دول إقليمية وخارجية في خلطةٍ جمعت بين الأرثوذكسية والكاثوليكية والإسلام والانحياز مرّةً إلى الغرب، ومرّةً إلى الشرق، ومرّةً ثالثة إلى "عدم الانحياز"، الذي جعل يوغسلافيا جزءاً من "العالم الثالث" وجذب إليها عشرات الآلاف من الطلبة الذين روّجوا لتجربتها في بلادهم عندما عادوا إليها.
منذ انهيار يوغسلافيا والكتب التي تتناولها لا تنقطع، سواء تلك التي تمثل الخارج وزوايا رؤيته المتعددة، أو التي تأتي من الداخل على شكل مذكّرات محكومة بوجهات نظر أصحابها وانتمائهم إلى مختلف الأطراف (الصرب والكروات والبّشناق والألبان وغيرهم) المتنازعة والمتقاطعة مع بعضها بطبيعة الحال. من هذه الكتب، وربما من آخر ما صدر منها، كتابُ "رحلة في الماضي" (بريشتينا، كوها 2020) للكاتب الصحافي المخضرم زينون تشيلا، الذي يروي تجربة ثلاثة أجيال وثلاث يوغسلافيات مختلفة: يوغسلافيا الملكيّة ويوغسلافيا التيتوية ويوغسلافيا التي كادت تصبح ميلوزوفيتشية.
يعتبر أن جيله مرّ بكل ما عاشته البشرية منذ اختراع النار
وُلد المؤلف في ربيع 1940، أي آخر عام من عمر مملكة يوغسلافيا، في قرية فوثاي الواقعة جنوبَ غرب الجبل الأسود، قرب الحدود مع ألبانيا، والمطلة على جبال الألب الألبانية. كان أجداده يقيمون منذ قرون في هذه المنطقة التي تحتضن أقليةً ألبانية وترتبط عشائرياً وثقافياً واقتصادياً مع شمال ألبانيا المجاورة. لكن هذه الحدود سرعان ما زالت في ربيع 1941، لتصبح المنطقة جزءاً من "ألبانيا الكبرى" (1941-1945) التي ضمّت إلى ألبانيا أجزاءً من الجبل الأسود ومقدونيا وكوسوفو. عادت الحدود إلى ما كانت عليه بعد عدّة سنوات، لتصبح قرية فوثاي جزءاً من جمهورية الجبل الأسود التي شكلت، مع جمهوريات أخرى، ما سُمي بيوغسلافيا الفيدرالية، تحت قيادة الزعيم الصاعد تيتو.
يحتمل الكتاب قراءتين مختلفتين: سياسية وثقافية. سياسياً، نجد نفسنا إزاء سيرة شاهدٍ في السنوات الأولى، لننتقل بعدها إلى حكاية مشاركٍ في صنع الأحداث إبان موجة الديمقراطية التي هبّت من وارسو بفضل "حركة تضامن"، ومن بعدها من برلين الشرقية مع هدم السور الذي يفصلها عن العالم الحر. تبدأ هذه المرحلة الأخيرة مع المشاركة في تأسيس "منظمة حقوق الإنسان" (1978)، وتمتدّ لتأسيس أول حزب ديمقراطي في البلاد عام 1989 ولتجارب العمل السري، وصولاً إلى الاعتقال والحرب (1999) التي فصلت ما بين كوسوفو وصربيا.
أما ثقافياً، فيشكّل الكتاب عصارةً لثقافة مجتمع مسلم عاش تغيرات كبرى خلال العقود الأخيرة. ويرى الكاتب أن جيله مرّ بكلّ المراحل التي عاشتها الإنسانية عبر العصور منذ اختراع النار (الذي يجعل منه عنواناً للفصل الرابع). ففي طفولته، كان يحمل عيدان خشب الصنوبر المصمّغ لينير البيت عندما يحضر الضيوف، وكان يأكل مع الأطفال بملعقة خشبية من صحن خشبي واحد موضوع على سفرة خشبية مصنوعة يدوياً. وكان يعيش مع عائلته الكبيرة التي تجمع ثلاثة أجيال على الأقل، وكان ينام في بيتهم المؤلف من غرفتين وردهة أربعون شخصاً. ويعتبر المؤلف أن جيله كان محظوظاً، إذ افتُتحت أول مدرسة ابتدائية في عهد "ألبانيا الكبرى"، وكانت تضمّ أربعة فصول فقط، بينما كان عليه لاحقاً أن يمشي 5 كيلومترات ليتابع تعليمه حتى الصف الثامن في مدينة غوسيّا القريبة. عندما رأى المدينة ولباس المعلم في المدرسة، أصبح حلمه أن يكمل التعليم لكي يصبح معلماً هو أيضاً. كان تلك النقلة كبيرة إلى درجة تجعله يقارنها بالقرون من الزمن.
كان الشيخ يقوم بدور الطبيب بما يكتبه من حجُبٍ للمرضى
كان الفقر مدقعاً في هذه المنطقة الجبلية الرعوية. وكان سكانها من الكاثوليك الذين تحولوا إلى الإسلام بعد الفتح العثماني في القرن الخامس عشر، ولهذا، فقد ظلوا يحتفلون بعيد القديس جرجس، الذي كان ينتظره الأطفال لارتداء ملابس زاهية بدلاً من الأسمال البالية، ولأكل اللحم المطبوخ في جوّ احتفاليّ. كان الذهاب إلى المدرسة تحدياً كبيراً للفقر ولأطفال لم يعرفوا النقود بعد. كان عليهم الذهاب إليها مشياً، وكانوا يقصّون علب الكرتون المقدّمة من الصليب الأحمر ويستخدمونها بدلاً من الورق، لأنّ الكرّاس المدرسي كان أمراً ينتمي إلى الحلم، لا إلى الواقع.
يشير تشيلا إلى أن والده كان من القلّة المتدينة في هذا القرية المسلمة المنسية بين جبال ألبانيا والجبل الأسود. ويصفه بالشخص المنفتح الذي يحرص دائماً على قول جملته الحكيمة: "كل واحد يذهب بمفرده إلى ذلك العالم"، أي كلّ واحد مسؤول عما يفعله. كان والده يحرص على قراءة القرآن، لكنه لم يكن يستطيع القيام بذلك بنفسه، لعدم معرفته العربية أو الألبانية وكان لذلك يطلب من ابنه أن يقرأ له من ترجمات القرآن المنشورة في ألبانيا المجاورة. وقد سمح هذا الدور للطفل زينون بالتعرف على الإسلام القرآني والإسلام الشعبي أو المعاش. كان في القرية جامعٌ، ولكن الشيخ لم يكن يأتي إلا في رمضان. وبينما لم يكن هناك من طبّ أو طبيب في المنطقة، فقد كان الشيخ مراد، المقيم في مدينة غوسيّا القريبة، يقوم بدور الطبيب بما يكتبه من حجُبٍ يداوي بها الأمراض.
ينوّه المؤلف بخصوصية لافتة حول وضعية المرأة في المجتمع الذي كبر فيه. إذ كان العرف القديم، الذي بقي بعد التحوّل إلى الإسلام، يقضي بحق المرأة في حصّة من ملكية العائلة (5 رؤوس من الغنم كحدّ أقصى، وعدد غير محدّد من الدجاج) وفي ممارسة أعمال يدوية (كالتطريز)، مع حقها في بيع ما ينتجه الغنم والدجاج من حليب وجبن وبيض وفي التصرّف بما تجنيه من نقود.
صورة لمجتمع مسلم عاش تغيرات كبرى في العقود الأخيرة
وفي هذا السياق، يتذكّر تشيلا خالة أبيه، باشيا، التي كانت تربي الدجاج وتبيع البيض كل أسبوع في سوق المدينة المجاورة، وتشتري بالمبلغ ما تريد. لكن باشيا مرضت في أحد الأيام واضطرت إلى البقاء في الفراش، فطلبت من الطفل زينون أن يبيع البيض ثم يذهب إلى الشيخ مراد ليكتب لها حجاباً مقابل ثمنه. أخذ زينون البيض وباعه إلى الفرّان في المدينة، وكانت هذه أول مرة يمسك فيها بمبلغ كهذا. وعندما شمّ رائحة الخبز الأبيض، لأول مرة أيضاً، اشتهى أن يشتري رغيفاً؛ ولما سار بضع خطوات شمّ رائحة لحم الكباب، فاشترى عدة قطع ليأكلها مع الرغيف. وبعد أن انتهى من التمتع بهذه الوجبة التي تناولها لأول مرة في حياته، سار في الشارع ليجد نفسه أمام مكتبة، فدخل واشترى كرّاساً مدرسياً لأول مرة في حياته أيضاً. وبعد خطوات، تذكر زينون أن عليه الذهاب إلى الشيخ مراد وأن الخالة تنتظر الحجاب لتشفى. بعد تفكير سريع، قاده ذكاء الطفولة الفطري إلى انتزاع ثلاث صفحات من الكرّاس كتب على كل واحدة منها ما يشبه الكتابة العربية التي يراها في المصاحف، ثم طواها على شكل مثلث حتى تبدو كالحُجُب. ولما عاد إلى البيت، قدم الحُجُب إلى الخالة مرفقةً بـ"تعليمات" الشيخ مراد: أن تنقع الأول في كوب من الماء وأن تشرب منه سبعة أيام متتالية؛ أن تلقي بالثاني فوق الجمر وتتنشّق بخاره؛ وأن تلفّ الثالث بالمشمّع وتضعه داخل قميصها. وتمنى لها الشفاء. بعد أيام حدثت المعجزة التي فاجأت الطفل زينون، إذ شُفيت خالته وقامت من فراشها وهي تدعو للشيخ مراد.
بعد الانتهاء من المدرسة الابتدائية (8 صفوف)، كان على زينون، كي يحقّق حلمه ويصبح معلماً، أن يذهب إلى كوسوفو المجاورة للالتحاق بدار المعلمين في مدينة بيا عام 1954. ولكن هذه المدرسة الوحيدة من نوعها في كوسوفو سرعان ما نُقلت إلى مدينة بريزرن (عاصمة كوسوفو العثمانية) ثم إلى بريشتينا (عاصمة كوسوفو الجديدة)، ما قاد زينون إلى التجول في كل كوسوفو قبل التخرّج من دار المعلمين عام 1960. لكن الصحافة هي التي ستجذبه في نهاية المطاف، وسيعرف من خلالها شهرة، بل سيصبح "عميد الصحافيين" الأحياء في بلاده.
ما بين الدراسة في قريته والدراسة في مدن كوسوفو أوجه أخرى للفقر المدقع الذي كانت تعرفه "يوغسلافيا الاشتراكية" في خمسينيات القرن الماضي. كان ثمة عطلتان خلال السنة الدراسية: شتوية وصيفية، ينتظرهما بفارغ الصبر حتى يعود إلى قريته. كان الفقر يدفع زينون ومن هم في المدرسة من أبناء تلك المنطقة إلى التجمع والسير على الأقدام عبر جبال روغوفا الشاهقة التي تفصل بين كوسوفو والجبل الأسود؛ أي أنهم كان يقطعون نحو 90 كيلومتراً. وإذا كان السير في الصيف منعشاً، فإنه يشكّل، في الشتاء وثلوجه الجبلية، مغامرةً تهدّد حياة الأطفال الذين كانوا يُستقبلون استقبال الأبطال في كلّ مرة يصلون إلى القرية.
جذبت الصحافة تشيلا الذي أصبح "عميد الصحافيين" في بلاده
دار الزمن سريعاً، كما يقول تشيلا، ليعايش لاحقاً السفر في الشاحنة ثم في الباص والقطار والسيارة الشخصية، وأخيراً في الطائرة التي استقلّها ليزور العديد من الدول منذ أصبح صحافياً معروفاً وناشطاً في مجال حقوق الإنسان.
وبالعودة إلى ثقافة الحُجب، فقد استقرّ زينون في كوسوفو التي كانت تنتشر فيها أيضاً ثقافة الحُجب. وكان يكتبها الشيوخُ عادة، أو من يقوم بدورهم كما فعل المؤلف مع خالته. أذكر، هنا، أنه في سبعينيات القرن الماضي، التي شهدت بداية قدوم طلبة عرب إلى كوسوفو، كانت النظرة إلى العربي مرتبطة بقدرته على كتابة "الحجاب الشافي". وكان ثمة طبيب فلسطينيّ معروف بهواه الناصريّ، حتى أنه كان ممن استقبلوا الرئيس جمال عبد الناصر في مطار بلغراد حين جاء عام 1961 للمشاركة في المؤتمر الأول لدول "عدم الانحياز". في كوسوفو، عُرف عن هذا الطبيب الفلسطيني قدرته على كتابة "الحجاب الشافي". وروى لي صديق أنه فتح، في أحد المرّات، من باب الفضول، حجاباً كتبه الطبيب الفلسطيني لمريض شفي من مرضه، فوجد في الحجاب جملة واحدة مكررة عدة مرات: عاش الرئيس جمال عبد الناصر!
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري