"عندَ التّفكير في أسماء الرحّالة الجريئين الذين عاشوا في القرون الماضية، فإننا لا نضع في الغالب أسماءَ نساءٍ مُسلِمات في رأس القائمة. ولكنَّ الروايات المُذهِلة، المأخوذة من مصادرها الأصلية، التي تضمّها هذه المجموعة تقلبُ، تمامًا، الأفكارَ والتصوّرات المُسبَقة حول مَن الذي كان يستكشف العالَم" في حقيقة الأمر. بهذه العبارة الجريئة، أيضًا، تُقدِّم مطبعةُ "جامعة إنديانا الأميركية"، كتابَها الموسوعي "ثلاثة قرون من أدب الرحلات المكتوب من طرف نساء مُسلِمات"، الصادر، في 532 صفحة من القطع الكبير، مزدانة بالرسوم والصور، أواخرَ عام 2022، إلى جمهور القرّاء بوصفه مرجعًا "مثاليًّا لأولئك المهتمّين بالجندر، والإسلام، وأدب الرحلات، والتاريخ العالمي"، فضلاً عن أنّهُ "يقدِّم نظرة ثاقبةً على الكيفية التي اختبرت بها تلك النسوة الجريئات العالم، بأصواتهنَّ وحدهنّ". إنّها أنثولوجيا رائدة، بكلّ ما تنطوي عليه هذه العبارة من معنى، لا تقع في دائرة اهتمام جمهور بعينه، فحسب، وإنّما تتّسع الدائرة لتشمل المهتمّين "بالتاريخ الكولونيالي، والأدب المقارن، والدراسات الإسلامية"، على حدّ قول ميرين شوبانا زاڤييه، الأستاذ المساعد بكلية اللاهوت والدراسات الدينية في "جامعة كوينز".
وليست هذه الجُرأة في الطّرح جزافيّة، ولا وليدة صدفة أو حماسة زائدة، بل نتاجُ عمل دؤوب من بحث معرفي وميداني شاقٍّ، دام سبعة أعوام، نفضَ الغبار، وأماطَ اللّثام، عن كتاباتٍ شبه منسيّة (منذ القرن السابع عشر وصولًا إلى القرن العشرين) في أدب الرحلة الذي كتبتهُ 45 امرأة مُسلمة (ملكات وأميرات وإماء وحاجّات ومتمرِّدات)، ثُمّ عمد أساتذة مُبرِّزون إلى ترجمة هذه السرديّات عن عشر لُغات أصليّة (كالعربية والتركية والأوردية، والبنجابية، على سبيل المثال)، وتعليق الشُّروح اللازمة عليها.
أنثولوجيا تُقاطِع بين الأدب المقارن وتاريخ الاستعمار
ففي التمهيد للكتاب، يُقرّ المؤلّفون بأنّ المشروع لم يكُن ليظهَر إلى حيّز الوجود لولا "الجهد الجماعي" الكبير، الذي بذلته أطراف مختلفة، بمنحة ماديّة وفّرها "صندوق ليڤرهيوم" في المملكة المتحدة، ودعم مالي قدّمته أيضًا "جامعة نورث وسترن" الأميركية. ولم يقتصر الجهد المبذول على مُحرِّري الكتاب الثلاثة، المُشرفين على المشروع منذ البداية (شَڤان لامبرت - هيرلي، ودانيال مايخروفتش، وسونيل شارما)، ولا على المُساهمين السّبعة الآخرين الذين عكفوا على إنجاز موادّه المختلفة وتهيئتها للنشر، بل تعدّاه ليشمل، أيضًا، لجنة إقليميّة موسَّعة من خبراء ومختصّين في شتّى حقول المعرفة.
وفيما تذكُر الحوليّات التاريخية العالمية أنَّ النمساوية إيدا فايفر (1797 - 1858)، هي أوّل امرأة في التاريخ تُسافر وحدها، في عام 1841، راكبةً البحر، مُدوّنةً تفاصيل رحلاتها تلك في دفاتر يوميات، تُرجمت، فيما بعد، إلى سبع لغات عالمية. نعم، لقد سافرت وحدها، بلا رفقة تقيها وعثاء السَّفر أو تدرأ عنها أخطاره، ولكنَّها طاردت الحلم الذي طالما راودها منذ الصّغر، بِـ"السّفر إلى أماكن أجنبيّة"، وهذا ما يجعلها فريدة في تاريخ الأدب والمغامرة، على حدٍّ سواء (حيث لم تكُن ضمن بعثة استكشافية يقودها الرجال، على شاكلة الفرنسية جان بارييه (1740 - 1807)، على سبيل المثال، التي تنكّرت في زيِّ رجل، والتحقت بحملة الملّاح الفرنسي لويس أنطوان دو بوغنڤيل (1729 - 1811) لِتُعَدَّ، في وقت لاحق، أول امرأة تجوب العالم في رحلة "طوافٍ بحريّ" طويلة امتدّت من سنة 1766 ولغاية 1769. إلّا أنّنا ما زلنا نجهل، لغاية اليوم، أيَّ معلومات إضافيّة عن مؤلِّفة "أوّل مَرويَّةِ أسفارٍ معروفة"، صنعتها امرأة مسلمة، سوى أنها كانت تُلقَّب بِـ"سيّدة أصفهان"، فيما يُشير النّاسخ إلى أنّها كانت أرملة الميرزا خليل، صاحب المنصب الرفيع في دولة آخر ملوك الصفويّين، شاه سلطان حسين (1697 - 1722) على حدِّ قول الإيرلندية شَڤان لامبريت - هيرلي، أستاذة التاريخ العالمي في "جامعة شيفيلد"، بالفصل الأوّل، من هذا الكتاب الذي لم يُسبَق إلى مثله.
ولكنَّنا سنعلم، بالرجوع إلى أصل مخطوط مرويّات "سيّدة أصفهان"، هذه، التي كانت سليلة إحدى العائلات الأدبية المُنتمية إلى مدينة أردوباد في أذربيجان الحاليّة، والتي عُرفت، كذلك، باسم "بلقيس الزمان وخديجته" (إشارة إلى بلقيس، ملكة سبأ، وإلى خديجة، زوجة النبي محمد)، أنَّ رحلتها كانت إلى الحجاز في وقت غير معروف على وجه الضّبط، أواخر القرن السابع عشر (حوالى عام 1700). وبذلك، تكون قد سبقت إيدا فايفر وجان بارييه، ليس أسبقيَّةَ سفرٍ وترحال (وحدها، في بداية رحلتها، التي دامت سبعة أشهر، دون أن يُرافقها أحد من محارمها أو أقربائها، كما تُشير لامبرت - هيرلي، مستندةً إلى مرويّاتها، ولكنّها التحقت بقافلة حجيج بعد ذلك بفترة)، إنَّما أسبقيّة تدوينٍ للمشاهداتِ وعجائبِ الأسفار أيضًا؛ وهذا ما يفسِّر الحديث عن "جرأة" العبارة التي افتتحنا بها هذه المقالة، من حيث إنّ هذا الكتاب يقلب تمامًا الأفكار والتصوّرات المسبقة، رأسًا على عقب، حول مَن الذي كان يستكشف العالَم في حقيقة الأمر!
وليس هذا فحسب، بل إنَّ رحلتها، تلك، التي شرعت بها، في الأصل، كي تتعافى، بالسَّفر، من آلام حزنها الشديد لموت زوجها، كانت تُوصَف في ذلك الوقت بأنَّها "خَطِرةٌ وباهظة الكُلفة من الناحية الماديَّة" ما يجعلها، فوق كلّ ذلك، امرأة مغامرة في غاية الجسارة! يوميات رحلات "سيدة أصفهان" الفريدة، هذه، كُتِبتْ منظومةً ("سفرنامة منظوم" safarnamah-yi manzum) في 1200 بيتٍ مَثْنَوِيِّ القافية masnavi (تتساوى القوافي، في النَّظم المثنويّ أو المزدوج، في البيت الواحد، بخلاف النّظم التقليدي الذي تتساوى فيه القافية في القصيدة كلّها)، ولا توجد نسخة منه إلّا في "كتابٍ" (جنگ، بالفارسيّة) بلا عنوان محدَّد، يضمّ "مجموعة Majmu’ah" مخطوطاتِ نصوصٍ فارسيّة، من القرنين السادس عشر والسابع عشر، تحتوي على قصائد ورسائل وكتابات متفرِّقة أُخرى، محفوظة في وقتنا الرّاهن لدى متحف الفنون في "جامعة هارڤرد".
وفي حين أنَّ إيدا فايفر قد طاردت حُلمها الطفولي، فانطلقت، لتحقيقه، في رحلتها الطويلة الأُولى إلى إسطنبول (من طريق نهر الدانوب، ثمّ إلى القدس، متوقّفةً في قبرص وبيروت وحيفا، من بين مدن أُخرى. ثم العودة إلى بيروت في العاشر من تموز/ يوليو عام 1842، مُبحرةً إلى مصر، فزارت الإسكندرية والقاهرة والبحر الأحمر، قبل أن تقفل عائدة إلى روما. ثمّ، بعد سنتين، تنشر يومياتها في النّمسا، في مجلّدين، تحت عنوان "رحلة امرأة من فيينّا إلى الأرض المقدسة")، فإنَّ المرأة المسلمة "الجريئة" قد حلمت بأنْ تُخلِّدَ ذِكْرَها بالكتابة عن أسفارها.
أسبقيّة النساء المسلمات في تدوين مشاهد وعجائب الأسفار
ففي "مَظاهِر النُّور" (تجليّات الأنوار العَلِيّة/ السماويّة) نقرأ الأبياتَ التالية التي نظمتها البيغوم نُور (أترجمها، هُنَا، عن الإنكليزية): "سأكتبُ كُتُبًا وأنظمُ شِعرًا طيلةَ حياتيْ/ لَنْ أندمَ البتَّةَ، وإنْ تقوَّلوا عليَّ الأقاويلَ وأنَّبُونِيْ/ لا أولادَ لِي في هذهِ الدُّنيا، ولكنَّ هذا النِّداءَ الإلهيَّ يدعُونِيْ/ يظلُّ ذِكْرُ المرءِ سائرًا في عَقبهِ، ولكنَّ إرثي سوفَ يكونُ/ فَلْيَطِرْ ذِكْري، بِمَا أكتبُ، إلى يومِ القيامةِ/ وَلْيُنجِّنِي اللهُ، في ذلكَ اليومِ، مِن جميعِ الكُرُبَاتِ". ولتحقيق هذه الرغبة في الخلود بالقصيدة/ الكتابة في الزّمن، مستجيبةً إلى ذلك النداء الجوّاني، الذي أفصحت عنه في الأبيات الآنفة، شرعت هذه المرأة، المولودة في قرية صغيرة بالبنجاب في الهند، في رحلة حجّ إلى مكّة في عام 1931، مُدوّنةً مُشاهداتها وانطباعاتها في أشعار خلتْ تمامًا من أيِّ ذِكْر لزوجها الذي رافقها، هو ووالدتها، في تلك الرحلة التي دامت أشهُرًا ثلاثة.
والمرأة العربية حاضرة في هذه الأنثولوجيا بمدوَّنات ثلاث نساء ذائعات الصِّيت في السرديّات التاريخية: الأولى هي السيِّدة سالمة بنت سعيد (1844 - 1924)، ابنة السلطان العُماني حينها. جاء الفصل المخصّص لتجربتها تحت عنوان "هروب عاشقة من زنجبار". وكانت الأميرة سالمة قد هربت من زنجبار، في عام 1866، بعد أن ظهرت إلى العلن علاقتها برودلف هنريش رويته، التاجر الألماني الذي كان يُقيم في زنجبار ويُتاجر فيها، فهربت إلى عدن، بمساعدة القنصل البريطاني. ثُمّ غادرت عدن، في عام 1867، إلى هامبورغ، برفقة رودلف، واعتنقت المسيحية، بزواجها به في العام ذاته، وبات اسمها الرسمي "إيميلي رويته"، على الرغم من تصريحها في أكثر من رسالة إلى شقيقتها بأنها قد بقيت مسلمة في السرّ.
يُورد الكتاب ثلاثة نصوص من أعمال السيِّدة سالمة؛ الأول من كتابها "رسائل إلى الوطن" Briefe nach der) Heimat)، وهو مجموعة رسائل لم تنشر إلّا في الفترة الأخيرة، بحسب ما تذكر شَڤان لامبرت - هيرلي، في مقدّمتها لهذا الفصل، والتي يُعتَقد أنّها كُتبت في فترة ما بعد عام 1888، مخاطبة "صديقة عزيزة" في زنجبار، مجهولة الهوية إلى اليوم. وأمَّا النّصان الآخران فَمُستلَّان من المجلّد الأول من مذكّراتها المنشورة في الأصل تحت عنوان "مذكرات أميرة عربية" (Memoiren einer Arabischen Prinzessin)، التي هُيِّئَتْ للنشر، بحسب ما تقول المؤلفة نفسها في المقدّمة، في برلين، شهرَ أيار/ مايو من عام 1886. ولكنَّ النصوص الثلاثة الواردة في الكتاب، منقولة عن الصنعة الإنكليزية للطبعة الثانية المنشورة في عام 1907 (صدرت الطبعة الأولى في نيويورك سنةَ 1888)، والتي أنجزها ليونيل ستراتشي. (وأعيد نشر الترجمة ذاتها في طبعة إنكليزية ثالثة في عام 2009، تحت عنوان "مذكّرات أميرة عربية من زنجبار")، وثمّة كتاب آخر، جمع أعمالها كاملة، نُشر بالإنكليزية في لايدن، سنة 1992، ضمن سلسلة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية التي تصدرها "دار بريل" العريقة، تحت عنوان "أميرة عربيّة بين عالمَيْن: مذكّرات، ورسائل إلى الوطن، وتكملاتُ المذكّرات، وعاداتٌ شاميّة وأعْرُف".
ولم تُنقَل هذه المذكّرات إلى العربية، إلّا بعد نحو قرن من الزمان على صدورها بالألمانية، حين عثر عبد المجيد حسيب القيسي على نسخة منها بالإنكليزية، صدفة، فعكف على ترجمتها، لتصدر في عام 1983 عن وزارة التراث القومي والثقافة في مسقط سنة 1983، تحت عنوان "مذكرات أميرة عربية: بقلم السيِّدة سالمة بنت السيّد سعيد بن سلطان، سلطان زنجبار وعمان" (وفي طبعة عاشرة سنة 2016)؛ وترجمتها سالمة صالح، نقلًا عن الأصل الألماني، هذه المرّة، نشرتها "دار الجمل" في عام 2002 (وفي طبعة ثانية سنة 2006) تحت عنوان "مذكّرات أميرة عربية"، ثُمَّ صدرت في جزء ثانٍ، بعنوان "رسائل إلى الوطن"؛ وفي جزء ثالثٍ بعنوان "مذكّرات أميرة عربية ــ تكملة المذكّرات"، بتوقيع زاهر الهنائي، نقلًا عن الألمانيّة أيضًا، وصدرا، على التتابع، عن الدار نفسها، عامَي 2016 و2017.
بحث معرفي وميداني أماطَ اللّثام عن كتاباتٍ شبه منسيّة
والمرأة العربية الثانية هي المصريّة هدى شعراوي (1879 - 1947)، رائدة تحرُّر المرأة الشرقيّة والمُدافعة الشرسة عن حقوقها، ولا سيما رحلتها المفصليَّة إلى روما، فاستهلَّ مؤلِّفو الكتاب مُقدمةَ الفصل المخصّص للحديث عنها، والمعنون بـ"صيف أوروبي عشيّة الحرب"، بوصفِ لحظة وقوفها على سطح السفينة وخلعها الحجاب وإلقائه في البحر، بعد حضورها وقائع المؤتمر الأوّل الذي عقده "الاتّحاد النسائي الدولي" هناك في عام 1923. يسرد الكتاب، فقط، تفاصيل رحلتها إلى إسطنبول 1905، وإلى باريس 1908 (1909، بحسب طبعة "مؤسسة هنداوي" الصادرة في القاهرة عام 2013)، وإلى أوروبا 1914. تفاصيل رحلات شعراوي، هذه، مذكورة في "مذكّراتها" التي نُشرت، لأوّل مرة، في "مجلة حوّاء" سنة 1980، ثم صدرت ضمن سلسلة "كتاب الهلال"، بعنوان "مذكّرات رائدة المرأة العربية الحديثة هدى شعراوي"، في عام 1981، وهي الطبعة التي استند إليها الكتاب في ترجمة النصوص الثلاثة التي أوردها، انطلاقًا من الترجمة الإنكليزية التي صنعتها الأميركية مارغو بدران (الحاصلة على دبلوم اللغة العربية من "جامعة الأزهر" في القاهرة)، وضمّنتها كتابها الصادر عن دار "ڤارغو" في لندن بعنوان "سنوات الحريم: مذكرات نِسويّة مصرية" في عام 1986.
وأمَّا المرأة العربية الثالثة، فهي المصريّة، أيضًا، أمينة السَّعيد (1914 - 1995)، أوّل امرأة تتخرّج من "جامعة فؤاد الأوّل" ("جامعة القاهرة" في الوقت الراهن) في عام 1935، وأوّل امرأة ترأسُ، في عام 1954، تحريرَ مجلّة معنيّة بشؤون المرأة، "مجلة حوَّاء" (التي بلغ معدل توزيعها 175000 نسخة في تلك الأوقات)، وبقيت في رئاسة تحريرها نحو عشرين عامًا؛ وأوّل امرأة ترأس مجلس إدارة "دار الهلال" العريقة في عام 1976؛ وأوّل امرأة تنتخب عضوة في مجلس "نقابة الصحافيّين" في العام ذاته، شاهرة قلمها، مطالبة بحقوق المرأة، بشراسة منقطعة النّظير، مُتصدِّيةً، بجرأة، في وجه المدّ الأصولي المتطرِّف الذي بدأ يغزو المجتمع في سبعينيات القرن العشرين. خُصِّص لأمينة السّعيد فصلٌ بعنوان "نِسويَّةٌ مصريّة في مؤتمر هنديّ". يتطرّق الكتاب إلى الرحلة التي قامت بها إلى الهند لحضور مؤتمر نساء عموم الهند، في أواخر عام 1945، وبداية عام 1946. تفاصيل هذه الرحلة مسرودة في كتاب أمينة السعيد الصادر عن "دار الهلال"، ضمن سلسلة "اقرأ"، في عام 1946، بعنوان "مُشاهدات في الهند". وعلى هذا الكتاب، استندَ غريغ حلبي وجيحون أرسلان في تهيئة وصناعة النصوص الإنكليزية التي ضمّها الكتاب.
ويذكر دانيال مايخروفتيش وشَڤان لامبرت - هيرلي، في حواشي مقدّمة الكتاب التي جاءت تحت عنوان "النساء المُسلمات، وأدب الرحلات، وثقافات السَّفر والتِّرحال"، أنّ القائمين على هذا المشروع الضّخم لم يتسنَّ لهم الاطلّاع على أعمال عائشة الباعونية، الشاعرة الصوفيّة الدمشقيّة من القرن الخامس عشر الميلادي، إلّا في المراحل الأخيرة، لذلك لم يضمِّنوها الكتاب، وهي التي وصفت، على حدِّ قولهم، رحلتَها إلى الدّيار المقدّسة بروحانيّة شفيفة. ولم يُغفلا الإشارة، أيضًا، إلى عدم تمكِّنهما، للسّبب ذاته، من الحديث عن رحلة العُمرة التي قامت بها، في منتصف القرن العشرين، المصريّة بنت الشّاطئ (1913 - 1998)، ولا سيَّما أنّها كانت موضوعةَ دراسةِ ريتشارد ڤان ليڤين، المعنونة "في أرض المعجزات: رحلات الحجّ التي قامت بها بنت الشاطئ"، والمنشورة في كتاب "رحلات الحجّ والزِّيارات التي قامت بها النساء المُسلمات إلى مكّة وما بعدها"، تحرير مارغو بايتولار وآخرين، الصادر في لندن عام 2020.
ولم يقتصر حضور الشّاعرات في هذا الكتاب على "سيِّدة أصفهان" والبيغوم نور، بل نطالع، أيضًا، على سبيل المثال، نصوصًا واسعة، مُستلّة من يوميات الشاعرة والروائيّة التركية شكوفه نهال بشّار (1896 - 1973) التي كانت تُتقن، إلى جانب اللغة التركية، ثلاثَ لغات أُخرى (الفرنسية والعربية والفارسية) وساهمت، على نحو بارز، في حركة تحرّر المرأة في أثناء حقبة بناء الهوية القومية التركيّة، ولكنّها، للأسف، ماتت فقيرة ووحيدة! يركِّز الكتاب على يوميّات رحلتها إلى فنلندا سنة 1932، حيث تسردُ الأحداثَ بلغةٍ، وصفتها روبيرتا ميكاليف، في مقدّمتها للفصل العشرين، المعنون "ثلاثة أيام في فنلندا"، على أنّها "شعريّة، تُشبه لغةَ الأحلام".
نصوص لشاعرات وأميرات ومتمرّدات تجمع الأدب بالمغامرة
تكتبُ شكوفه، وهي الشاعرة التي نشرت مقالتها الأولى في عمر الثالثة عشرة، وقصيدتَها الأولى بعد ذلك بأربع سنين، قائلةً، وفقَ النص الإنكليزي الذي صنعته روبيرتا ميكاليف، نقلًا عن الأصل التركي الصادر في عام 1935: "حَيَّتْنَا فنلندا بابتسامةٍ ورديَّةٍ... ابتسامةٍ صافيةٍ، دمثةٍ، تُشبهُ القصيدة... خُيِّلَ إليَّ أنَّني في حضرةِ وجودٍ عظيمٍ إلى حدٍّ بعيدٍ. فَارتعشَ قلبي رعشةً طافحةً بالمهابةِ والوقار". يقع الكتاب في أربعة أقسام رئيسة: "التِّرحال أداءً لمناسك الحجّ"؛ و"الترحال رغبةً في الانعتاق والتحرّر وممارسةً للسياسية"؛ و"الترحال طلبًا للعِلم"؛ و"الترحال أداءً لواجبٍ أو سعيًا وراء متعة شخصيّة". وتقع هذه الأقسام الأربعة في 45 فصلًا، يحمل كلّ فصل في عنوانه اسمَ امرأة من النّساء الخمس والأربعين اللواتي يتناول سِيرَهنَّ الكتابُ بطريقة إبداعية؛ فكلّ فصل يحتوي على مقدّمة، وتحليل نصيّ، ومقتطفات من أدب الرحلة واليوميات التي كتبتها كلُّ واحدة منهنّ. إنّهُ، حقًّا، كتاب نفيس، نأمل أن نرى له ترجمةً عربيّة - مرخَّصةً حسب الأصول - في المستقبل القريب!
■ ■ ■
يوميَّاتٌ مختارة من الكتاب
من يوميات سيّدة أصفهان، أرملة ميرزا خليل (ترجمة نثرية، كما في الصنعة الإنكليزية، مع أنّها في الأصل منظومة في أبياتٍ مَثنويّةِ القافية):
ولمَّا جرَّعني القدَرُ المكَّارُ مرارةَ فراقِ قُرّةِ العينِ حبيبي، قضَّ الحزنُ عليَّ مضجعي. لم أَجِد ملاذيَ إلَّا في السَّفرِ. لَن أذوقَ طعمَ النّومِ في الليلِ ولا طعمَ الرّاحةِ في النّهارِ حتَّى أطوفَ بالكعبةِ المُشرَّفةِ. هيَّأتُ نفسي ثُمَّ انطلقتُ والعزيمةُ تحثُّ خَطوي. لم يرافقني أحدٌ مِن أهلِ بيتي، فهرعتُ إلى البريَّةِ كالمجنون [مجنون ليلى] وحدي. فما نفعُ غَوثِ الخليقةِ حينَ يكونُ اللّهُ وَلِيّ المُنكَسرِ القلبِ؟ ـ حَسْبِي أنّ ذلك يَكفِي. ولمَّا رأيتُ غدرَ أحبَّتي، غادرتُ أصفهانَ كالرّيحِ الباردةِ. غسلتُ الخوفَ عن قلبي فاستبشرتُ خيرَ الغَيبِ في السَّفرِ. تنشقَّتُ، في لحظةٍ، سحرَ الرِّيفِ على مدَّ البصرِ، فطرتُ كالعصفورةِ مِن فوقِ غصنِ الحزنِ. ولكي أطوفَ ببيتِ اللّهِ، انطلقتُ في البريَّةِ وحدي.
■ ■ ■
من يوميات الشاعرة التركية شكوفه نهال بشّار، والمنشورة بالتركية في عام 1935، تحت عنوان "ثلاثة أيام في فنلندا":
وكانَ المساءُ... كانتِ الشمسُ تغربُ... وكانَ الأفقُ، وسطَ الخُضرةِ الشاسعةِ، يحترقُ. توقَّفنا أمامَ محطَّةٍ بديعةٍ بواجهةٍ بيضاءَ مِن غيرِ سُوءٍ. مرَّت ثُلَّةٌ من الجنودِ أمامَنا؛ كأنَّهم قُدُّوا مِن القماشِ ذاتهِ أو جُبِلُوا في القالبِ ذاتهِ؛ شبابٌ مَمشوقونَ، بشعورٍ ذهبيَّةٍ، ووجوهٍ لوَّحتها على مَهلها الشَّمسُ... كانت ثيابُهم نظيفةً، تخلُو مِنَ أيِّ عيبٍ...
راحَ القطارُ يتحرَّكُ؛ كأنَّني أتصفَّحُ كشكولَ صُوَرِ فنَّانٍ يتمتَّعُ بمهاراتٍ جَماليَّةٍ عظيمةٍ: ثمَّةَ حدائقُ، ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشِّمالِ، ومتنزَّهاتٌ، وبيوتٌ، نسَّقها شخصٌ صاحبُ ذوقٍ رفيع... وتلوحُ، في البعيدِ، رقعةٌ من بحرٍ شاحبٍ تُذكِّرُ بحلمٍ أزرق... وتلوحُ مِن الشَّارع المرصوف بالأشجارِ فتياتٌ يرتدينَ مَناماتهنَّ، جميلاتٌ كباقاتِ الزُّهورِ، بوجوهٍ عتَّمَتها سُمرَةُ الشَّمسِ الأخَّاذةُ، عائداتٍ إلى بيوتهنَّ. مفعمات، جميعهنَّ، بالحيويّةِ، فاتنات، ورزيناتٌ، ورشيقاتٌ ناعمات... ويلوحُ، في الطَّريقِ الأُخرى إلى القريةِ، أطفالُ القريةِ، وصبايا القريةِ، كبارًا وصغارًا على حدٍّ سواء، كأنَّ عيونهم الزرقاء وشعورهم الذهبيَّة وأعناقهم المدوَّرة، كُراتٌ ذهبيَّةٌ. وتلوحُ في وجوهم آثارُ ابتساماتٍ صامتة. وثمَّةَ أناسٌ، عَن يمينِ القطارِ وشمالهِ، يركبونَ الدرَّاجاتِ الهوائيَّةِ، ويتسكَّعون.
دَنَتِ السَّاعةُ مِن الغروبِ... والشَّمسُ، كطفلةٍ عابثةٍ وُضِعَتْ في السَّريرِ ولكنَّها ترفضُ أنْ تنامَ، تواصلُ فتحَ ناموسيَّتِها بيدَيْها الشَّقِيَّتَيْنِ، ثُمَّ تشقُّ الغيومَ، بينَ حينٍ وآخرَ، مبتسمةً، والفرحُ يتهلَّلُ مِن وجهِها، مِن طرفِ الأفقِ إلى الطَّرفِ الآخر...
ثُمَّ اتَّسعَتِ الحُمرةُ التي في طرفِ أشجارِ الصَّنوبرِ فجأةً؛ ظننتُ أنَّ الشَّمسَ تشرقُ. نظرتُ إلى الوقتِ؛ كانت السَّاعةُ الحاديةَ عشرةَ فحسبُ... أظنُّ القطارَ قد صعدَ إلى مُرتقىً أعلى. كانت في المحطةِ صبيَّةٌ صغيرةٌ وجميلةٌ ترتدي طاقيَّةً مخمليَّةً حمراءَ قانيةً، وزيًّا كُحليًّا، وترتسمُ على مُحيَّاها نظراتُ جادَّةٌ: مسؤولةُ المحطَّة... إنَّها شيءٌ يشبهُ تمثالًا صغيرًا على قارعةِ الطَّريق...
غادرَ القطارُ: هَا نحنُ نمرُّ بالحدائقِ، والقرى، والمدنِ، مرَّةً أخرى. دائمًا التَّرتيبُ ذاتهُ، ودائمًا النظافةُ ذاتُها والجَمالُ ذاتُه... لا نعدمُ رؤيةَ النَّاسِ خارجَ منازلهم أبدًا. وفي الغسقِ المُلوَّنِ، يتسكَّعُ الفِتيةُ الوسيمونَ كالجنِّ المليحينَ الذينَ يلجونَ أحلامَنا. نظراتي، التي تطيرُ مِنَ الأرضِ إلى السَّماءِ ومِن السَّماءِ إلى الأرضِ، تخافُ أنْ تُضيِّعَ مثقالَ ذرَّةٍ مِن هذا الجَمال...
ثُمَّ سطعَ الشَّفقُ مرَّة أُخرى، كأنَّ الشمسَ لم تستطع أن تتمالكَ نَفْسَها بأنْ تظلَّ محجوبةً عَنِ النَّاسِ، فشقَّتْ بطانيَّةً رماديَّةً من طرفِ بستانِ الصنوبرِ المعتمِ، وأخرجتْ لسانَها المتوقِّدَ وراحتْ تمزحُ معَ الأرضِ...
■ ■ ■
من يوميات الشاعرة الطَّاجيكيّة دِلشاد (1800 - 1900؟) أيَّام سجنها في خُوقند (أوزبكستان الوقت الراهن) بعد وقوعها أسيرةً في يد الأمير عُمر خان إبّان إغارته على قريتها، والتي دوَّنتها، في وقت متأخِّر من حياتها، في كتابها "تاريخ المهاجرين":
وبعد سؤاله عن اسمي وعائلتي، أراني الأميرُ رمَّانةً، ثُمَّ طلب منِّي نظمَ غزليَّةٍ حولها. فأنشدتُ الغزليَّةَ التّالية في ذلك الوقت:
"رأيتُ القُبَّةَ السَّماويَّةَ، وجميعُ مَا فيها طافحٌ بالألمِ.
حجابُ حريرٍ يُغطِّي وجوهَهم. رأيتُ عيونَهم دامعةً وقلوبَهم تنزفُ.
رأيتُ قلبَ كلِّ جَمالٍ وقد شقَّهُ سيفُ حُكمِ عُمر خَان الظَّالمِ".
ومَا إنْ أكملتُ تلك الأبيات، حتَّى وكزني الأمير مرَّتَيْن، فدخل أحدُ أتباعه الغرفة. فقال له الأميرُ: "خُذ هذه الآثمةَ إلى السِّجن"، ثُمَّ أومأ إليه بعينيهِ، ولكنَّني لم أُدرك مغزى ذلك.
ولكنَّ هذا التَّابع أخبرني، حين كنَّا نعبر سويَّةً، في وقت لاحق، قرب بوَّابة القلعة: "أتعرفين، يا بُنيَّتي، أنَّ الأمير قد وهبني إيَّاكِ؟ ولكنَّني لا أعرفُ حقيقةَ أمركِ، حقيقةَ إنْ كنتِ قد اتَّخذتِ عشيقًا أم ليس بعد. راجيًا أن تُخبريني إنْ كنتِ تعشقين شخصًا مَا".
فقلتُ: "لقد عرفَ عشقُ شابٍّ من قريتي طريقَهُ إلى قلبي".
فقال: "أيَّتها الجاريةُ، ألا ترغبينَ في أن أعتقَكِ؟".
فقلتُ: "بلى".
فقال: " لقد أعتقتُكِ".
فقلتُ: "إنَّني غريبةُ ديارٍ، ولا أعرف أينَ أذهب؟".
فقال: "أترينَ، هُنَاك، يا بُنيَّتي، حيث الجنودُ الأربعون المستريحونَ في ثكناتهم بجانبَيِ البوابة يغطُّون في النوم الآن؟".
وبعد التَّعبير عن مدى امتناني لهذا الشابِّ العطوف، الذي تعود أصوله إلى قريتي، مشيتُ خلفه. أبدى هذا الشابُّ، في ذلك الوقت، جرأة عظيمة، ففتح البوابة من أجلي. خرجتُ، سائرةً صوب ضوءٍ يلوح من بعيد. وحينَ اقتربتُ من مصدر الضوء، رأيتُ بأنَّه كان حمَّامًا عموميًّا. وخشيةَ أن يكون موقدو النَّار في فرن الحمَّام ينامون في الرَّماد المتناثر، سلكتُ طريقًا أُخرى. رأيتُ، ذاتَ الشمال، كوخًا أسود حيث كان متصوِّفةٌ سكارى من أتباع الطريقة القلندريَّة منهمكون في احتساء البوظة. وبعد أن مِلتُ على الباب الموارب، سقطتُّ مغشيّةً عليَّ! لا أذكرُ ما حدث لي بعد ذلك. وحين عدتُّ إلى وعيي، رأيت بأنّني كنت مستلقيةً على الأرض وقطعة قماش تغطِّي وجهي.
* شاعر ومترجم أردني فلسطيني