للمنطق موقف دقيق من الشِّعر؛ فأثناء دراسة مادّة المنطق، تُخضَع اللغة إلى سلسلة من القوانين الاستنتاجية، والتي تحكم في النهاية إذا ما كان الكلام منطقيًا أم غير منطقي. بل في بعض الأحيان، يسلّمك المنطق أدواتٍ تفصل بالنسب المئوية الرقمية بين المنطقي وغير المنطقي في كلامٍ ما. وتتأسّس شرعية المنطق الأساسية من البداهة الأوليّة غير القابلة للدحض، في شكلها الأكثر بساطة لدى العقل البشري، والتي يقبلها أيّ حدس، تمامًا كما يقبل بقوانين الرياضيات.
لنقُم، مثلاً، عشوائيًا، باختيار هذه الجملة: "فقط، إذا كان الجوّ ماطرًا (جملة أ)، يخرجُ أحمد إلى الشارع (جملة ب)". هنا، تقرُّ بداهة العقل، أي حدسه الأوّلي، بأنّ تحقّق الجملة أ سيؤدّي منطقيًا إلى إثبات تحقّق الجملة ب، فإذا خرج أحمد إلى الشارع، سنقرّ مباشرة بأنّ الطقس ماطر. بل وأكثر من ذلك، فإذا كان نَفْي أ هو المحقّق، فإننا نستطيعُ مباشرة أن نستخلِصَ نفْي ب، أي أننا متأكّدون بأنّ الطقس غير ماطر لأنّ أحمد لم يخرج إلى الشارع.
اللحظة الشعرية هي فشل كامل للمنطق وهي أيضاً لحظة صمت
في هذا العالم شديد التناسق والاكتمال، عالمٌ خالٍ من الاستعارة والتأويل، عالم لا نشاز فيه بما يتناقض مع البداهة والحدس، عالمٌ مبنيّ من جذره إلى قمّته على اشتقاق السبب من النتيجة، يُسمِّى الفيلسوف، جيمس ويلبيردينغ James Wilberding، الضليع في المنطق والمتذوّق للشعر، اللحظة التي تتعذّر فيها آلة المنطق بـ"اللحظة الشعرية" أو "لحظة النبوّة".
اللحظة الشعرية هي ليست لحظة منطقية أو غير منطقية، لأنّ هنالك خطأ شائعا يربط الشعر باللامنطق؛ إذ حتّى نقرّ بأنّ كلامًا ما هو غير منطقي، يجب أن يمرّ بسلامة من دون توقّف في عملية التحليل. يأتي الحُكم من عملية تحليل ناجحة، لكنّ اللحظة الشعرية هي فشل كامل للمنطق، وعجزٌ عن الاستكمال، وكسرٌ لسلسلة الاستنتاجات المتعاقبة المُشتقّة من بعضها البعض بديهيًا، هي لحظة "صمت المنطق" وغياب الفعالية الكاملة عن إصدار أيّ حكم. المنطق يعطي أرقامًا دقيقة عن "الحقيقي" و"غير الحقيقي"، ويصمت عند الشعر.
ينسحب المنطق لمّا يظهر الشعر، ويغيب الشعر لمّا يسود المنطق.
■ ■ ■
أمّا نيتشه، والذي من الصعب تعريفه إذا ما كان شاعرًا أم فيلسوفًا، فيدحضُ بشكل مطلق وجود أيّ غاية، أخلاقية كانت أم غير أخلاقية، للوجود، بل يصفه كامتداد مطلق للصمت واللامعنى. وذلك على خلاف الفلسفات (خصوصًا الكانطيّة) التي تتصوّر "عقلاً" أو "ناموسًا" للطبيعة.
اعتمادًا على هذا، يرى نيتشه الإنسان نشازاً في الوجود، لأنّ كل الأحكام الصادرة عنه "ملوّثة" بعاملَيْ "الميل" (Neigung) و"النفور" (Abneigung)، أي أنّها غير عادلة وغير حياديّة، مهما ادّعت الشمول والاكتمال. علمًا أنّ الوجود من جهته، غيرُ معنيٍّ على الإطلاق بهذين العاملين، فهو صامت ولا نهائي وغير مُكترث، ولا يحتمل محاولات البشر إسباغ معانيهم عليه.
المحرّك العميق للإنسان تجاه أيّ شيء، لا يمكن إلا أنّ "يتلوّث"، مهما كانت ادعاءات الحيادية والتجريد، بمشاعر الميل والنفور. وبالتالي، لا يوجد أيّ حكم صادر عن الإنسان إزاء شيء ما، غير متأثّر، إمّا بالميل لتحقيق الفائدة من الشيء، أو بالنفور من ضرره المتوقّع. ويصف نيتشه هذه المعضلة بالنشاز غير القابل للحلّ، ولكنْ كيف يعبّر هذا النشاز عن نفسه؟
الشاعر هو الوحيد القادر على ادّعاء وجود معنى ما
كل اعتقاد في وجود قيمة أو هدف عامٍ واحد للحياة ينبعُ من خطأ في التفكير. إذْ إنّ تحويل أي صفة أخلاقيّة واحدة إلى هدف سامٍ وغاية مشتركة لكلّ البشر، سيؤدّي حتماً إلى إهمال صفات أخلاقية أخرى موجودةٍ بدورها. فإذا قلنا مثلاً إنّ تبرير التضامن وإحساس البشر بمعاناة بعضهم البعض هو من أهداف الحياة الأسمى، فإنّ ذلك سيؤدّي حتمًا إلى إهمال حقيقة، وهو أنّ هنالك كثيرًا من البشر أنانّيون، لا يعيشون حياتهم بشكل فعلي تحت تأثير هذا التضامن، وهذا هو الحال فعلاً. هذا الاعتماد على نزعة أخلاقية واحدة، سيؤدّي حتمًا إلى إهمال نزعات أخلاقية أُخرى موجودة أيضًا، وهو بالتالي، اعتمادٌ على خطأ في التفكير.
ويرى نيتشه جهد الإنسان في إصباغ أيّ صفة أخلاقية واحدة على الحياة، أي الإمْعَان والإغراق في الخطأ، محاولات من أجل بث الأمل في مستقبل الحياة. ادّعاء تمثّل معنى ما للإنسانيّة، لا يلبثُ أن يفشل، بل سينتهي بسيلٍ من اللعنات على الوجود، بمجرّد أن يكتشف المرء أن الإنسانيّة لا هدف لها، ومستحيل إيجاد نقطة ارتكاز فيها، أو اختصارها في بعد أخلاقي واحد.
أمّا الوحيد القادر على ادّعاء وجود معنى ما، فهو الشاعر! لأنّه يجد عزاءه في هذا اليأس والخطأ. الخطأ الضروري للحياة.
* كاتب سوري مقيم في برلين