كتاباً تلوَ آخر تتأكّد الرابطة الفكرية، ما بين الكاتِبَين المغربيّين: عبد الفتّاح كِيليطو وعبد السلام بنعبد العالي. إذ لا تجمع بينهما صداقة مباشرة وحسب، بل يتعدّى الأمر إلى قواسم أكبر. إنّها تقاطعاتٌ تتمثّل بالتطلّع صوب إنشاء نظرية شاملة في النّقد الأدبي، وإغنائها بحركة جدليّة من النّاقد إلى الكاتب، والعكس. لذا، يصحّ السؤال هل نحن أمام دهشة جديدة، نتجاوَز فيها الوضعيّة الكلاسيكيّة، التي حُشر النقد فيها بوصفه نصّاً ملحقاً بالنّص الأساس؟
في هذا السياق من تشاكُل الدّهشة بالجدليّة، صدر حديثاً عن "منشورات المتوسّط" الكِتاب الجديد للباحث عبد السلام بنعبد العالي بعنوان "عبد الفتاح كيليطو أو عشق اللِّسانَيْن". يقف بنعبد العالي مُحلِّلاً منجَز باحث معروف بالتحرّك بين لغتين وذاكرتين، يحدِّق بِعينٍ أولى مِلؤها التمعّن بالمدوّنة الأدبية التراثية، وبالثّانية يستحضر النصوص الكلاسيكية الغربية، وما تولّد عنها لاحقاً من أدوات ونقودات مختلفة.
وإذ تتولّى الذاكرة عمليّة الاسترجاع في مؤلّفات صاحب "النّدم الفكري"، فإنّ التجربة تحضر دائماً بوصفها انفتاحاً يشحن الذّات بالآخر ذهاباً وإياباً، دون الوقوع في فخ التأطير. بمعنى أن تكتبَ الآخر ولا تصيره، بقدر ما تكون ذاتك وتملك مقدرة على مقارَبتها من الخارج، وهذه هي مقولة الكتاب الأساسية.
ليست هذه المرةّ الأولى التي يشتبكُ فيها نصّا المؤلّفَين، إذ تبدّت أولى الروابط بينهما في فضاء الترجمة كونها الحيّز الفعلي لاختبار الأدب بالنسبة لهما، علاوة على ما توظّفه من آليّات تدفع حركة الذهاب والإياب التي تحدّثنا عنها آنفاً. هنا تجدر الإشارة إلى الاشتغالات الترجمانية السابقة، لأستاذ الفلسفة في "جامعة الرباط"، التي مَرْكَزت أعمال كيليطو في محورِ اهتمامها ومنها: "الكتابة والتناسخ"، و"أتكلم جميع اللغات لكنْ بالعربية".
قبل عامين، أصدر بنعبد العالي كتاباً عنونه بـ"لا أملك إلا المسافات التي تبعدني" وفيه يُعالج مقولة الاتّكاء والنّهل من مقولات لكُتّاب باتوا حُجّة ومستنَداً. إذ كيف يمكن أن نتعامل مع هذه الوضعية، هل ننشئ عليها متابَعة فكرية، أم يجب الوقوف على أرض مستوية والانطلاق من الدرجة صفر في الكتابة. وهذا ما يُمكن تطبيقه على عمله الجديد لنتساءل: أيّ المسافات أبعدته وأيّها أغوَته، وهل أغنى النّص أم اغتنى به؟
على الجهة المقابلة، أثارَ كتابَا كيليطو الأخيرين "في جو من النّدم الفكري"، وروايته "واللّه إنّ هذه الحكاية لحكايتي"، عدداً من الإشكاليات التي لم ينقطع تأثيرُها بعد. لذا، من غير المتوقَّع أن ينتهج بنعبد العالي قراءة توثيقيّة أو كرونولوجية (خطّية)، بل يعدُ باقتراح نصّ، يفتّش عمّا يَكمن وراء الأشياء، ويمنحها قيمتها الفريدة في عالم الأدب.