يتوسّط أعلى اللوحة شعار "استرجاع الممتلكات البحرية" الذي رفعه المتظاهرون في بيروت خلال احتجاجاتهم الشعبية عام 2019. يرسم عبد القادري بالكلمات فوق مساحات من الرمادي والأسود لا تظهر عليها سوى حشود غاضبة تملأ الشوارع والميادين مطالبةً بزوال النظام الفاسد الذي جثم فوق صدورهم منذ نهاية الحرب الأهلية، ولا يغيب عن المشهد اللون الأحمر نازفاً وسط العتمة مع بياض قادم كضوء من بعيد.
إنه واحد من عشرة أعمال يتضمّنها معرض الفنان اللبناني "17 تشرين الأول 2019، يوميات الثورة اللبنانية" المتواصل حتى الثاني عشر من أيلول/ سبتمبر الجاري في "غاليري 12" بقصر كرومويل اللندني، بتنظيم من "غاليري تانيت".
يوثّق القادري (1984) برسومات متقشّفة في ألوانها وتفاصيلها مشاهد حيّة عاشها بنفسه، لا تحفل بأية تزويقات تبدو فائضة في التعبير عن لحظة لا تُمحى من الذاكرة، حيث وحّد الغضب والرفض جموع اللبنانيين من جميع دياناتهم مذاهبهم، لأول مرة منذ سنين طويلة، ونزلوا مطالبين بحقّهم في حياة كريمة، لنراهم في اللوحة متكاتفين متراصّين، حيث الوجوه بلا ملامح، إذ تتشابه في إحساسها بالظلم الذي يتوزّع مسؤوليته أمراء الطوائف والحرب.
تطغى المساحات الرمادية الممزوجة بالبياض والسواد على جميع اللوحات، وهي ليست بعيدة عن تجارب سابقة للفنان كان الأسود الحاضر الأساسي فيها كما في سلسلة "نيكتوفيليا" التي عرضها العام الماضي، باعتبارها اللون الأكثر وضوحاً، وهو "احتضان أعمى لجميع الألوان في وقت واحد"، وفق تعبيره. لكن الإحالات اللونية في المعرض الحالي تنبع من صلب الواقع الذي يسجّله الفنان ويثبت تواريخ أيامه على كلّ عملٍ.
حين أعلن المحتجّون كلمتهم في بيروت، كان القادري في طريقه إلى مطار العاصمة اللبنانية للتوجّه إلى بكين حيث كان عليه إلقاء محاضرة في "متحف كافا للفنون". وحين وصل الصين، شاهد الآلاف يملؤون طرقات لبنان عبر شاشات التلفزة، فقرّر أن يشتري ورق الأرز والحبر الصيني ويعود إلى وطنه، إلى حيث يجب أن يكون، ويرسم من هناك معايشاته، يوماً بيوم، لوحة بلوحة.
رسومات ترتبط بأمكنة وتواريخ من انتفاضة تشرين الأوّل 2019
ترتبط الرسومات بأمكنة معيّنة وتواريخ محدّدة لا تزال عالقة في ذاكرة اللبنانيين الذي أمضوا لياليَ وأياماً مشدودين إلى حلمٍ لم يتحقّق، وإلى تغيير لا يزال مستعصياً حتى اللحظة، وهي مشاهد تشكّل وثيقة بصرية أو صرخة احتجاج لفنان يعيش في جغرافية تفرض عليه الانخراط في السياسة باعتبارها ممارسة موازية للفن، وأن يقول بوضوح كلمة "لا".
سلسلة رسومات غير مكتملة، مثلها مثل الثورة اللبنانية نفسها، بحسب بيان المعرض، الذي يشير إلى أن القادري رسمها على مدار أسابيع متتالية ثم توقّف بشكل مفاجئ بعد تعرّضه للضرب من قبل قوات الأمن التي قمعت المظاهرات أواخر عام 2019. منذ ذلك الوقت، لم يعد قادراً على الرسم أو حتى مغادرة المنزل، لكن أرشيفه لا يزال يُضيء لحظة حاسمة في التاريخ اللبناني.
اختار الفنان ورق الأرز الرقيق ليرسم عليه، في إشارة إلى هشاشة الانتفاضة التي اجتاحت لبنان، وأن تكون الأعمال بالأسود والأبيض باستثناء الملامح الحمراء الدموية التي ترمز إلى عنف السلطة ومؤيديها الذي قاد إلى وقوع العديد من الجرحى. كما تبرز بقع من الحبر تقطر فوق السطح وتستحضر نبص الصورة، في حين تربط المواد بين بكين وبيروت، وترسم روابط بين النضالات الاجتماعية في جميع أنحاء العالم.
وتلفت قيّمة المعرض نات مولر إلى أن هذه الرسومات مليئة بالعاطفة الصريحة، وهي متأثّرة بالأعمال على الورق التي رآها القادري في الصين، وهي أقل تفصيلاً من أعماله الأخرى التي تتكوّن عادةً من طبقات ألوان زيتية سميكة، حيث تعبّر هذه الرسومات بدلاً من ذلك عن طاقة غاضبة مصحوبة بإحساس بالرهبة المتوقّعة.