ضمن مشاريع الترجمة المتناثرة بين الثقافة العربية وجوارها من الثقافات الفارسية والتركية، تبرز أهمية استكشاف التحوّلات السياسية والاجتماعية لدى شعوب الجوار خلال القرن الماضي، والتي لا تزال مجهولة لكثيرين، وتبدو معرفتها ضرورية لفهم تأثيرها على الأدب والكتابة في هذين البلدين.
"غرف غارقة في الصمت والظلام.. قصص مختارة من الأدب الفارسي" عنوان الكتاب الذي صدر حديثاً عن "دار خطوط وظلال" للباحث والمترجم الأردني عبد الكريم جرادات، ويتضمّن تسعة نصوص قصصية لستّة كتّاب من إيران.
تشير مقدّمة الكتاب إلى أن الأدب في إيران لم يكن قد نضج من الناحية الفنية قبل ثورة الدستور عام 1906، ففي السنوات الأولى لقيام الثورة، دعا المثقفون الإيرانيون إلى التجديد في الأدب وقيام ثورة أدبية، إذ كانت مجموعة من الكتّاب لا ترى في التراث الأدبي الإيراني ما يفيد الكاتب المعاصر في بيان أفكاره الثورية، وكانت هذه الفكرة تراود روّاد القصة القصيرة الذين رأوا بأن السبيل الوحيد لرفع مستوى المجتمع هو الكتابة من اجل الناس.
لم يكن الأدب في إيران ناضجاً من الناحية الفنية قبل ثورة الدستور عام 1906
ويوضّح المؤلّف بأن "القصة القصيرة الإيرانية بلغت نتيجة ذلك مرحلة من النضج والتطوّر رغم أنها في البداية لم تكن جنساً مستقلاً، بل كانت مجرد تسلية يمارسها الكتّاب أوقات الفراغ، ولم يشر أحد إلى مصطلح "القصة القصيرة"، بل كانت تندرج تحت عنوان الرواية"، وتبدو هذه الخلاصة متقاربة مع أوضاع القصة القصيرة في العالم العربي التي ربما تأخر نضوجها حتى أربعينيات القرن الماضي.
وقسّم جرادات مسار تطوّر القصة القصيرة في إيران إلى ستّ مراحل؛ الأولى (1906 – 1921) وفيها وصلت إيران إلى ذروة التوتر بسبب التدخلات الخارجية، وأهمّ مجموعة خلالها كانت "كان يا ما كان" لـ محمد علي جمال زاده، والثانية (1921 – 1941) وفيها وُجدت حكومة مركزية دكتاتورية، وازداد نفوذ الاستعمار الحديث في المجتمع، وظهرت طبقة وسطى جديدة، وكان صادق هداية من أبرز كتّاب القصة فيها.
أما الثالثة (1941 – 1953) التي شهدت نوعاً من الانفتاح السياسي وظهر الجيل الثاني من كتاب القصّة القصيرة، وعرفت المرحلة الرابعة (1953 – 1963) انقلاب مصدق وهزيمة الفكر الثوري بين المثقفين الذي أصيبوا باليأس وتركّزت في قصصهم شخصيات منعزلة متشائمة.
وصولاً إلى الخامسة (1963 – 1978) وهي المرحلة التي كانت مقدمة اندلاع الثورة الإسلامية، ومشاركة الكتّاب والمثقفين في الحياة السياسية، وانصب الاهتمام في المرحلة السادسة (1978 وحتى الآن) على طرح قضايا الثورة الإسلامية بوصفها قضايا أساسية محورية.
جلّ المختارات تدور حول معاناة المرأة الإيرانية في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات
يستعرض المؤلّف بالتفصيل أبرز الكتّاب الذين أحدثوا تغييراً مهماً في بنية القصة وشكلها وتقنيات القصّ، ومحللاً نماذج من نصوصهم، منذ التأثر بالسرد القصصي الأوروبي منذ جمال زادة ثم النزوع تحو تصوير الحياة الواقعية في إيران مثلما فعل هدايت، واهتمام بعضهم بالتحليل النفسي للشخصيات التي تناولوها في أعمالهم كما صادق تشوبك، مروراً بجلال أل أحمد الذي تحوّل من الماركسية إلى مثقف ذي اتجاهات إسلامية، وتميّزت قصصه بالطابع التسجيلي.
وينتقل بعدها إلى جيل الستينيات والسبعينيات مثل سيمين دانشور وبهرام صادقي، ثم بدأت ما أسماها جرادات "مرحلة المقاومة" في النصف الثاني من الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات التي أظهرَ كتّابها مثل أحمد محمود وعلي محمد أفغاني تعاطفهم مع المحرومين، مبيناً أن جلّ القصص المختارة في هذا الكتاب تدور حول معاناة المرأة الإيرانية في أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي، وما كانت تواجهه من اضطهاد اجتماعي.
ينتخب جرادات ثلاثة نصوص لإسماعيل فصيح (1935 – 2009) وهي: "جل مريم" و"عشق" و"ولادة"، ونصان لجلال آل أحمد (1923 – 1969) هما "ابن الناس" و"النساء كثر"، وقصة "عيناي متعبتان" لجمال مير صادقي (1933)، و"الاصطدام" لسيمين دانشور (1921 – 2012)، و"كابوس" لفروغ فرخزاد (1934 – 1967)، و"هتاو" لعلي أشرف درويشيان (1941 – 2017)، مع تقديم سيرة مختصرة لكلّ كاتب منهم.