ضمن "سلسلة ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدر حديثاً كتاب بعنوان "المبادرات الأمنية في منطقة المغرب العربي والساحل: مجموعة دول الساحل الخمس على المحك" للمؤلف عبد النور بن عنتر، وترجمة عومرية سلطاني.
يقترح الكتاب منظوراً تحليلياً ونقدياً للديناميات الأمنية في منطقة الساحل والمغرب العربي، حيث يركز على التضاعف الذي تشهده مبادرات الأمن الإقليمي، ولا سيما مجموعة دول الساحل الخمس. فإذا كان هذا التكاثر يحيل إلى "عودة" الاهتمام بالمنطقة في سياقٍ قوامه حيازةُ الدول الأفريقية أمنها، فإن الدوافع والطريقة التي تُدرك بها هذه العمليات تثير إشكالات عدة، تتولد عنها توترات وتغذي الخصومات التي تنشأ منها ابتداءً. لذا، يخلص الكتاب إلى أن التنسيق بينها هو قضية استراتيجية، وأن من الضروري العمل المسبق على حل المشكلات السوسيو-اقتصادية والسياسية، وعدم الاكتفاء بالتدابير اللاحقة، القائمة على عسكرة الحرب ضد الإرهاب، حيث إنه إدارةٌ للعواقب، وليس علاجًا للأسباب.
يرى المؤلف أن على الرغم من اكتمال تشكيل مجموعة دول الساحل الخمس، فإنها تواجه مثالبَ كبيرة، منها القدرات المالية والعملياتية المحدودة، والتبعية للخارج، وأسبقية المسار العسكري الأمني على مسار التنمية، وافتقارها إلى الشرعية الإقليمية وغيرها، ما يجعل مستقبلها غير مؤكد.
يرى المؤلّف أسبقية المسار العسكري الأمني على مسار التنمية في المغرب العربي ودول الساحل
تمثّل أفريقيا مصلحة ثلاثية للولايات المتحدة، فهي مسرح إضافي لـ "الحرب على الإرهاب"، ومحل للحصول على الطاقة والمواد الخام، وللتنافس مع الصين للسيطرة على موارد القارة، بحسب الكتاب، وهي تفضل تجنّب التدخل العسكري المباشر، وتعتمد على "الأنظمة الصديقة، ويفضَّل أن تكون تلك الغنية بالموارد الطبيعية تخدمها بالوكالة". في مقابل ذلك، تزوّد بلدانَ منطقة المغرب العربي والساحل بالمساعدة الأمنية والعسكرية، ومنه مصدر التضاعف الذي تعرفه برامجها بالنتيجة (المعدات، والتدريب، والتمويل، والمناورات المشتركة) خاصة في إطار الشراكة لمكافحة الإرهاب عبر الصحراء. ومع ذلك، فشلت الولايات المتحدة في العثور على بلد يستضيف مقر "أفريكوم" على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلتها. ويعتقد البعض أن وجود الولايات المتحدة في المنطقة ليس عاملًا يشجع على حالة اللااستقرار فحسب، بل إن وجودها يولّد التهديد الإرهابي، ومن ثمّ، فإنها [أي الولايات المتحدة] تبالغ فيه بهدف الحفاظ على وجودها، كما تحاول إضفاء الطابع المؤسسي عليه من خلال قوات أفريكوم.
أما بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، الذي يشارك على نحوٍ كبير في مساعدة المنطقة، فلديه استراتيجيته للتنمية والأمن في منطقة الساحل، وفق الكتاب، وتهدف هذه الاستراتيجية الموجّهة إلى موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو إلى تعزيز قدرات قوات أمن الحدود، وإنشاء وحدات جديدة متخصصة في مراقبة الشرائط الحدودية، وبدء تعاون أوثق (أمني، قضائي ... إلخ) مع الدول المجاورة.
ويوضّح الكتاب أنه إذا كانت تعددية العروض الخاصة بالتعاون الإقليمي والوساطة تعكس في ذاتها تعبيرًا عن اهتمام جماعي بالتدخّل في الأزمات بهدف إيجاد حل سياسي لها، فإن دوافعها وطريقة التعامل معها هي ما تمثل إشكالية. والواقع أن ذلك يؤدي إلى تأثيرٍ يعاكس الهدف (الرسمي) المتوقّع منها. إنّ التعددية في عروض الوساطة، التي يتولّد منها بحكم الواقع استنساخ للجهود الإقليمية، هي نتاج منافسات متعددة، أو على الأقل مقاربات متباينة، بل متعارضة. وتتجلى، أحيانًا، في عرض الوساطة و/أو التعاون نفسه مقاربات متضاربة على الرغم من المبادئ العامة التي يزعم أنّ جميع الشركاء يتقاسمونها؛ ذلك كما لو أن الفواعل المعنية تسعى بالأحرى إلى الظهور على المستوى الإقليمي، بدلًا من العمل الجماعي من أجل حل جدّي للأزمات، أو التآلف بعضها مع بعض في هذه العمليات التي تكون فرص نجاحها محدودة. ويمكن منذ البدء إيجاز تناقضات العمليات الإقليمية وقيودها هذه في العناصر التالية: تباين التوجهات الاستراتيجية المتعلقة بالأمن الإقليمي، وقضية أفرقة الأمن وتولّي زمامه، واستراتيجيات التوجه نحو الخارج، وتولّي زمام الأمن أداةً للنفوذ، والتنافس والتحييد المتبادل، والازدواجية في العمل، وتجذّر ثنائية الأطراف، وهيمنة موضوع الإرهاب، وأشكال التعارض والتناقض حيال مسألة التدخل الأجنبي.
تكاثر المبادرات الإقليمية تعبيرٌ أيضًا عن نرجسية سياسية لدى الأنظمة القائمة ومنافَساتها الإقليمية على قاعدة أن لكلٍّ مبادرته الخاصة، بحسب الكتاب، وتفتح هذه المنافسات المحلية المجال للتنافس الخارجي بالنظر إلى أنّ الدول الشريكة تتنافس باستخدام مبادرات إقليمية متداخلة، سواء أكانت هي التي وضعتها أم صدرت عن المنطقة.
ويشير إلى أن عضوية دول الساحل والمغرب العربي في جميع العمليات الإقليمية، مهما كانت رمزية، هي وسيلة تستخدمها لتحييد بعضها بعضًا. فلكل دولة مبادرتها الخاصة، وهي تحاول، متى شاءت، تقويض مبادرة الجار المنافس على الرغم من عضويتها فيها حتى تؤكد في الوقت نفسه مبادرتها الخاصة. إن الانخراط بالقول فقط، أي عدم تطبيق التدابير التي يجري البتّ فيها بصورة مشتركة، بل إجهاضها عبر اتخاذ مواقف متناقضة، وسيلة تتبعها كل دولة لتأكيد صحة مقاربتها وعمليتها على حساب مقاربات الآخرين. وفي النهاية، تغذي العمليات الإقليمية التوترات وتولدها ويحيِّد بعضها بعضًا، لتصير من ثمّ مشكلة لا حلًا.
كما يبيّن أن التحييد المتبادل مصدر لعدم الاستقرار في المنطقة لأنه يقوض الإجراءات التي تتخذها هذه المبادرات. فالدول الأطراف في مختلف العمليات تختار مواقف والتزامات متضاربة. يمكننا أن نضرب هنا مثلًا لسلوك الدول التي هي أعضاء في مبادرة دول الميدان/ لجنة الأركان العملياتية المشتركة ومجموعة دول الساحل الخمس (بوركينا فاسو، ومالي، والنيجر، وموريتانيا). ففي حين تقول هذه الدول بمعارضتها التدخل الأجنبي في المبادرة الأولى، نراها تؤيده في الثانية.
ويختم الكتاب بأنّ مجموعة دول الساحل الخمس دعت، نهاية عام 2014، إلى تدخّل دولي في ليبيا. تشهد هذه المواقف المتناقضة على المنافسات والتباينات الكامنة وراء إطلاق العمليات الإقليمية، ودينامياتها، وكذلك منطق التحييد المتبادل الذي تميل إليه الدول الشريكة. في نهاية المطاف، توضح أنماط الخيارات الاستراتيجية في موضوع تولّي زمام الأمن، مثلما نوقشت آنفًا، القيود والتناقضات المتأصلة في هذه العمليات الإقليمية. وإن الفجوة بين المبادئ والممارسات لَكبيرة، إذ تتعهد الدول الشريكة بالتزامات تتعارض مع مبادئها المعلنة ومع تلك التي تتأسس عليها العمليات الإقليمية التي تستمر في إعلان تمسّكها بها. وهذا بالطبع ما يجعل صدقيتها وأفعالها على المحك.