ما الذي تضيفه أو تقدّمه فلسطين إلى العالَم؟ يمكن لهذا السؤال، إذا ما كان استهلالياً ــ أي إذا لم يكن سؤالاً استنكارياً ومتعالياً ــ أن يفتح الأفق على حقلٍ خصبٍ من الإجابات والأفكار. هذا الحقلُ هو ما يأخذنا إليه القائمون على العدد الجديد من مجلّة "عربوراما" السنوية، التي يُصدرها "معهد العالَم العربي" في باريس بالتعاون مع منشورات "سوي"، والذي يحمل، بالمناسبة، الصيغة نفسها تقريباً للسؤال، لكن بشكل تأكيديّ: "ما يمكن لفلسطين أن تضيفه إلى العالَم".
العدد، الذي خرج إلى المكتبات في آذار/ مارس الماضي، هو في الحقيقة أقرب إلى كتاب، أولاً على مستوى الكمّ: 336 صفحة من القطع الكبير، تضمّ خمسين مقالةً ونصّاً وبحثاً ومشاركةً (خرائط لجغرافيين، رسومات لفنّانين، نصوص لأدباء، إلخ) لخمسين كاتباً ومثّقفاً وأكاديمياً وفنّاناً، من العرب بشكل أساسي، ومن الفرنسيين.
وهو أيضاً كتابٌ على مستوى تكامُله وتقديمه قطعةً واحدة: أي فُسحة معرفية يمكن للقرّاء الفرنسيين من خلالها الوقوف على أحوال فلسطين وشعبها، ونضال أهلها، وحقوقهم، وما يفعله الفنانون الفلسطينيون، وما يفعله الأصدقاء العرب والعالميون من أجل القضية، إلى جانب ما يعتمل حولها، وما يعتمل ضدّها في المنطقة وخارجها، من تطبيع ومن دعم لماكينة الاحتلال، مع وقوف على إجرام الاستعمار الصهيوني وغيره من الموضوعات الواسعة التي تتوقّف عندها مواد العدد. عددٌ لا بدّ من التذكير بأننا مدينون بالإشراف على تنسيقه وتحريره إلى كلٍّ من الصحافي الفرنسي من أصل مصري في جريدة "لو موند" كريستوف عيّاد، والمؤرّخة التونسية الفرنسية ليلى الدخلي، وأستاذ العلوم السياسية الفرنسي من أصل إيراني برتران بديع.
عددٌ يشبه الكتاب المتكامل لناحية الحجم أو محتوى مواده
الكتاب مقسّمٌ إلى ثلاثة أجزاء رئيسة، هي: "البلد"، "القضيّة"، و"النفَس الثقافي". وفي كلّ واحدٍ منها نقف على مجموعة من المداخلات التي لا تضيف فحسب الكثير إلى العالَم، وإلى معرفة الفرنسيين بفلسطين وشعبها، بل وإلى معرفتنا نحن المطّلعين أكثر على القضية، إذ نكتشف أن اطلاعنا أقل سعة من سعة عناصرها ومشاغل المناضلين لأجلها: من حديث مجد الشهابي وعمر تسدل عن معركة "البيانات المفتوحة ضد المحو" إلى شهادة المصوّر عصام نصّار حول التصوير الضوئي بوصفه "طريقة للمطالبة بما هو لنا"، مروراً بالمقالة الممتعة التي تخطّها ليلى الدخلي حول إدوارد سعيد ("فلسطين بوصفها تياراً إنسانياً جديداً"). كما نُسعَد ونحن نتصفّح رسومات عثمان السلمي في قصّته المصوّرة "انتفاضة إلى الأبد"، أو رسوم لينا مرهج على نص لجاد هلال ("الأرض وأشجار الزيتون")، أو مقالة جان بيير فيليو حول "الكفّية، هذا العلَم الفلسطيني الآخَر".
كل هذا إلى جانب مقالات وتحليلات سياسية أكثر جفافاً وأكاديمية ربما، لكنها ضرورية لقرّاء قد لا يعرفون عن أن "النظام المصري يغلق حدوده ويفتح أعينه" (ورقة سارة داوود)، أو عن "طبيعة نظام الأبارتهايد الإسرائيلي" (لطارق بقعوني)، على سبيل المثال.
ولحسن الحظ أن هذا العدد من المجلّة يقوم بشكل أساسي على أقلام وأصوات جديدة، تسعى إلى قول شيء عادل ودقيق عن القضية الفلسطينية، بعيداً عن الخطاب التعايشي والإرضائي الذي تتميّز به بعض الأصوات التي "سيطرت" لسنوات طويلة على الصوت الفلسطيني في فرنسا، ومنها على سبيل المثال إلياس صنبر، الذي يدعونا، بلغةٍ تتفلسف من دون فلسفة، إلى التفكير بـ"مجتمع" من "أبناء هذه الأرض" التي يصفها قبل أي شيء بـ"المقدّسة"، وهو مجتمع يضمّ الجميع، "يهوداً ومسيحيين ومسلمين، لكلّ منهم دينه الذي يؤمن به"، لأن "الأرض المُقدّمة متعدّدة في طبيعتها العضوية"، ما يعني أن "على مَن يريد أن يحكم فلسطين، أن يكون ضامناً لاستمرارية مكوّناتها الإقليمية"! برنامجٌ متكامل عن التطبيع والتعايش مع المحتلّ يقترحه علينا الكاتب و"المناضل" السابق، في مزج رهيب في تبسيطه بين الديني والثقافي والسياسي، وضمن واحد من المقالات التي كان عدد المجلة ليكون أجمل وأنقى من دونها.