عزمي بشارة موصفاً ظاهرة هابرماس: مفكرو المركزية الغربية و"مواقفهم"

24 ديسمبر 2023
الشرطة تعتقل طالباً بـ"جامعة برلين" خلال مظاهرة تضامنية مع فلسطين هذا الشهر (Getty)
+ الخط -

في إطار ردود الفعل العربية على مواقف مثقّفين غربيين، من بينها موقف الألماني يورغن هابرماس من حرب الإبادة على غزّة، قد يكون من المهمّ العودة إلى المحاضرة التي ألقاها عزمي بشارة نهاية الشهر الماضي، لتفسير هذه الظاهرة الثقافية التي تُساء قراءتها عربياً، وتُعطى تفسيرات مبالغاً بها وأكبر من حجمها.

فضمن محاضرته العامّة "الحرب على غزّة: السياسة والأخلاق والقانون الدولي"، التي قدّمها في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بالدوحة، تناوَل المفكّر العربي الخلفية السياسية لعملية "طوفان الأقصى"، والسلوك العامّ الإسرائيلي، والمواقف الدولية والعربية تجاه العدوان على غزّة، مُحلّلاً مفهوم الإبادة الجماعية في حالة غزّة، ومناقشاً استخدام "إسرائيل" ما تسمّيه "حقَّ الدفاع عن النفس" في تبرير جرائمها، كما خصّص مساحةً للتعقيب على موقف هابرماس الذي عبّر عنه في بيان أصدره مع ثلاثةٍ آخرين بداية الشهر الماضي.

يضع بشارة هذا الموقف ضمن سياقٍ تتصرّف فيه البلدان الغربية، على مستوى الخطاب، كأنّها دولٌ شمولية؛ حيث "لم ينجُ من هذه الأجواء مفكّرون يَعدُّهم العرب المعجَبون بهم أصحاب قيم كونية؛ سواء أكانت يسارية أم ليبرالية، ومنهم يورغن هابرماس وشيلا بن حبيب"، مُضيفاً أنّ الكثير "من المتنوّرين، بلغة القرن الثامن عشر الفرنسي، لا يتجاوزون الهوّة الفاصلة بين القيَم الكونية في مضمونها من جهة، وكونيتها لناحية نطاق سريانها من جهة أُخرى".

ويعتبر بشارة أنّ بيان هابرماس ضدّ منتقدي إسرائيل لا يستحقّ أيّ مناقشة علمية حوارية، فالحديثُ عن بيان سياسي مقتضَب يتركّز أساساً على تبرير تحديد حرّية نقّاد "إسرائيل" في ألمانيا في التعبير، ورفض تسمية ما تقوم به "إسرائيل" في قطاع غزّة إبادةً جماعية، لأسباب متعلّقة بألمانيا ذاتها وتاريخها، وأيضاً لسبب يبدو له بديهياً؛ وهو أنّ الحرب الإسرائيلية على غزّة، التي سماها المفكّر الألماني (1929) "الانتقام بهجوم مضادّ"، لا يجوز أن يكون محلّ خلاف.

همّه منصبّ على ألّا يُسمّى ما يتعرّض له الفلسطينيون إبادة جماعية

يتّفق بشارة مع هابرماس في توصيفه للعدوان الإسرائيلي على غزّة بأنّه "هجوم انتقامي"؛ لكنّه يشدّد على أنّ "مبدأ الدفاع عن النفس، الذي يجب أن يكون متناسباً ومتوافقاً مع القوانين الدولية، لا ينطبق على الاحتلال، ومن ينطبق عليه مبدأ الدفاع عن النفس في سياق الاحتلال هو الشعب الرازح تحت الاحتلال. ويُسمّى حقُّ الدفاع عن النفس هذا حقَّ المقاومة" الذي يجد تبريره الأخلاقي في عنف الاحتلال المتواصل، وتبريره القانوني في القانون الدولي.

وبدلاً من توجيه النقد إلى الحرب الفعلية الجارية في الواقع، يؤكّد بشارة أنّ هابرماس فضّل التشديد على حرب افتراضية تجري بموجب "مبادئ توجيهية للحرب"، تتمثّل في "تجنُّب سقوط ضحايا من المدنيين" وأن يكون الهدف "إحلال السلام في المستقبل". يعلّق بشارة: "لا أعتقد أنّ هابرماس يمتلك الغرور الكافي لكي يحسب إسرائيل منصاعة لمبادئه التوجيهية. لكنّه وضعها على كلّ حال بوصفها شروطاً بلاغية لأغراض الصياغة، بحيث يبدو دعم الحرب التي تخوضها إسرائيل مشروطاً، مع أنّه غير مشروط".

يرِد في البيان الرباعي: "وعلى الرغم من القلق على مصير السكّان الفلسطينيّين، فإنّ معايير الحُكم تزيغ عن الطريق تماماً عندما تُعزى نيّاتُ الإبادة الجماعية Genocide إلى التصرُّفات الإسرائيلية"؛ وهو ما يفسّره عزمي بشارة بالقول: "يجوز لك أن تقلق على مصير السكّان الفلسطينيّين، ولكن لا يجوز أن تُسمّي ذلك إبادة جماعية". أمّا بالنسبة إلى هابرماس نفسه، فيُسجّل بشارة أنّ صاحب "المعرفة والمصلحة" لا يُعبّر عن أيّ تعاطف أو تضامن مع السكّان الفلسطينيّين؛ فـ"همُّه منصبٌّ على ألّا يُسمّى ما يتعرّضون له إبادة جماعية"، مُضيفاً: "الأمر يتعلّق بحسن استخدام المصطلحات. ولا يُسعفنا السيد هابرماس بإصدار حُكم بنفسه على ما يُسبّب 'القلق على مصير السكّان الفلسطينيّين'، وإذا لم يكن ما يجري لهم إبادةً جماعية، فما هو؟".

عزمي بشارة
عزمي بشارة خلال محاضرته العامّة "الحرب على غزّة: السياسة والأخلاق والقانون الدولي"

عبّر هابرماس في البيان، الذي وقّعه مع نيكولا ديتلهوف وكلاوس غونتر ورينر فورست، بعنوان "مبادئ التضامن"، عن انحيازه المطلَق للاحتلال الإسرائيلي وجرائمه في فلسطين، وأكثر من ذلك، اعتبر أنّ التضامن مع "إسرائيل" لا ينبغي أن يكون محلّ خلاف. وقد أثار هذا الانحياز إلى الإجرام الصهيوني والتعامي عن ضحاياه انتقادات واسعةً، وبدا المتلقّي العربي مصدوماً، بالنظر إلى المكانة الاعتبارية لصاحب نظرية "الفعل التواصلي" في الفكر الفلسفي.

غير أنّ بشارة يُذكّر، في ردّه، بأنّ هابرماس لا يملك أيّ رصيد يُذكَر، أو مكانة فعلية، في التضامن مع الشعوب خارج أوروبا؛ حيث يتركّز اهتمامُه العمومي في عقلنة الخطاب السياسي في أوروبا والمصالحة بين العقلانية التنويرية والعدالة الاجتماعية والليبرالية السياسية. وفي هذا السياق، يُشير إلى أنّ موقف المفكّر الألماني من الحرب الأميركية على العراق عام 2003 نمَّ عن سذاجة سياسية؛ إذ صدَّق أنّ هدفها تصدير الديمقراطية، كما جسّد ميل الحسّ الأخلاقي إلى التضاؤل والاختباء خلف النقاشات الأكاديمية بشأن المصطلحات، حين يتعلّق الأمر بما يجري خارج "نحن" العالم الغربي.

يتوقّف بشارة، هنا، عند مصطلح الإبادة الجماعية الذي قال إنّه شغل كثيراً من الأكاديميّين في هذه المرحلة، و"كأنّ تحديد التسمية هو الذي يُحدّد الموقف الأخلاقي من المسمَّى". يقول: "يُفترض أن يكون قتل المدنيّين الجماعي، بما في ذلك استهداف المدارس والمستشفيات بالقصف العشوائي من الجوّ، مُداناً أخلاقياً بغضّ النظر عن تسميته الاصطلاحية. وانطباقُ مصطلح إبادة جماعية عليه ليس شرطاً لعدّه جريمةً نكراءَ وموبقةً في منتهى الخسّة والوضاعة".

يتوقّف المفكّر العربي أيضاً عند انشغال هابرماس بما سمّاه "ردود الفعل المعادية للسامية" في ألمانيا؛ إذ يعتبر في البيان أنّ "تصرُّفات إسرائيل لا تُبرِّر بأيّ حال من الأحوال ردود الفعل المعادية للسامية، وخصوصاً في ألمانيا". يُسجّل بشارة أنّ المفكّر الألماني لا يُحدّد "تصرّفات إسرائيل" ولا يسمّيها؛ إذ "لا يشغله ما يجري للسكّان الفلسطينيّين، ولا تصرُّفات إسرائيل، بل ردود الفعل المعادية للسامية في بلده. ولا تعنيه أغلبية ردود الفعل الناقدة لإسرائيل وغير المعادية للسامية".

إزاحة إلى حلبة أُخرى وهمية هي حلبة الصراع مع اللاسامية

تتمثّل ردود الفعل اللاسامية، التي تمكّن هابرماس وزملاؤه من رصدها، في الخشية من تعرُّض "اليهود واليهوديات في ألمانيا مرّةً أُخرى لتهديدات تُطاوِل حياتهم وأجسادهم، وتُجبِرهم على الخوف من العنف الجسدي في الشوارع"، ويصف هابرماس الاعتراف بـ"الحياة اليهودية وحقّ إسرائيل في الوجود" بأنّهما "عنصران أساسيان في الروح الديمقراطية لجمهورية ألمانيا الاتحادية"، ويُسبِق ذلك بمبدأ "احترام الكرامة الإنسانية" الذي يلفت عزمي بشارة إلى أنّه لا يجد له تطبيقاً على الفلسطينيّين في غزّة.

وينتهي بيان هابرماس وزملائه بالقول إنّه "يجب على جميع أولئك الذين يُقيمون في بلادنا والذين بثّوا فيها المشاعر، والقناعات المعادية للسامية باعتماد شتّى أنواع الذرائع، ويرون الآن فرصة ملائمة للتعبير عنها دون عائق، أن يلتزموا بتلك الحقوق ويمتثلوا لها". وهنا يلفت بشارة إلى أنّ استخدام عبارة "أولئك الذين يُقيمون في بلادنا" بدلاً من المواطنين أو الألمان ليس صدفةً، فهو يقصد بها الإشارة إلى المهاجرين العرب والمسلمين إلى ألمانيا، والذين لديهم أسبابهم، كما يعتقد هو، لاعتناق أفكار معادية للسامية. "هؤلاء أصبحوا، بالنسبة إلى هذا المفكّر، مصدرَ بثّ العداء للسامية في ألمانيا. البروفسور الألماني يجد لنفسه معركة ضد غير الألمان المعادين للسامية، وبهذا تُغلَق الحلقة".

كيف يمكنه تبرير ذلك؟ يتساءل عزمي بشارة، ويضيف: "الأمر مُحيّر؛ إذ لم أسمع عن رواج لموقف يتّهم إسرائيل بارتكاب هذه المجازر لكونها يهودية، أو لكون جنودها يهوداً. لن تجد موقفاً كهذا يتبنّاه عددٌ معتبَر من العرب والفلسطينيّين أو المحتجّين على العدوان في أنحاء العالم كافة. إنه يلج إلى حلبة السجال المستعر في الفضاء العام الغربي لكي يُجري عملية إزاحة إلى حلبة أُخرى وهمية هي حلبة الصراع مع اللاسامية".

وهذا الحال، وفق عزمي بشارة، هو أيضاً حال السياسيّين والمثقّفين والإعلاميّين الذين تظاهروا في فرنسا ضد اللاسامية في الوقت الذي ترتكب فيه "إسرائيل" المجازر في غزّة. سلوكٌ يقول بشارة إنّه يفهمه بأنّ هؤلاء "لا يتظاهرون ضدّ أيّ شيء محدَّد، بل احتجاجاً ضدّ من يتكلّم عمّا يجري في غزّة، ويحاولون فتح معركة أُخرى لتمويه المجازر التي ترتكبها إسرائيل، ولإعادة رسم حدود حرية التعبير بالمناسبة لتنتهي حيث يبدأ نقد إسرائيل".

يذكّر بشارة، هنا، بسلسلة المضايقات وجرائم الكراهية التي تعرّض لها الفلسطينيّون والمتضامنون معهم في الغرب منذ السابع من أكتوبر، متسائلاً: "ألا يرى هابرماس أنّ الاستمرار الحقيقي للاسامية والعنصرية العرقية في أوروبا يتجلّى في العداء لهؤلاء الناس الذين لا يرتاح كما يبدو كثيراً لوجودهم؟".

يسجلّ بشارة بأنّ هابرماس وزملاءه لا يبدون، في بيانهم، أيّة حساسية تجاه الموضوع الفلسطيني، مضيفاً أنّ هذا الأمر لم يكن ليهمّه كثيراً لو عبّروا عنه بالتزام الصمت إزاء الجريمة الجاري ارتكابها في غزّة، و"لكنّهم قرروا أن يُصدِروا هذا البيان المعيب والمنافق أخلاقياً، والذي لا يهمّه مِن كل ما ترتكبه إسرائيل في قطاع غزّة سوى احتمال وقوع ردود فعل لاسامية في ألمانيا أو غيرها".

ويختتم عزمي بشارة بأنّه لا يسعى إلى تذكير هابرماس بواجبه الأخلاقي تجاه الشعب الفلسطيني؛ إذ "ليس عليه واجب كهذا، كما أنّ الواجب الأخلاقي لا يُفرَض على أساتذة الجامعات"، معتبراً أنّ المفكّر الألماني تطوّع للإعلان عن موقفه من باب النفاق الأخلاقي حين أصرّ على رفض إطلاق وصف "إبادة جماعية" على الحرب الإسرائيلية على غزّة، ويضيف: "هو لم يُدنها حتى لو لم يتّفق على تسميتها إبادة جماعية، أو حتى يعبّر عن نقده لها".

المساهمون