يستعيض القانون الجنائي الحديث عن مفهوم الشرّ المطلق، الذي يسكن بعض البشر، بمفهوم الشرّ الجنائي، الذي يقرن إدانة المتَّهم بمسوّغات مقبولة من وجهة نظر الأخلاق العامة للمجتمعات الحديثة. وقد كان لهذا التحوُّل أثر، ليس على الصعيد القانوني والسياسي فحسب، بل على الصعيد الفلسفي أيضاً.
في محاضرةٍ نظّمها "معهد الدوحة للدراسات العليا"، أمس الثلاثاء، أبرزَ أستاذ الفلسفة في "جامعة سيدي محمد بن عبد الله" بمدينة فاس المغربية، عزّ العرب لحكيم بناني، أنّ القانون الجنائي الحديث المستمدّ من الفلسفة الكانطية، والذي يُمثّل مفهومُ القَصاص عِمادَه، ينسجم مع تحليل الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو لأسباب وملابسات ظهور المؤسّسة العقابية في شكلها الحديث، موضّحاً أنَّ فلسفة العقاب الحديثة تخلّت عن الفكرة القائلة بوجود شرّ مطلق متأصّل في ذوات البشر، يدفعهم نحو ارتكاب الجرائم، مكتفيةً بوضع قواعد قانونية قسرية للوقاية من الجريمة.
يُوضّح الأكاديميّ المغربيّ، في المحاضرة التي حملت عنوان "الحداثة الأخلاقية والحداثة الجنائية من خلال نظرية العقاب لدى كانط"، أنَّ فلسفة العقاب عند كانط تستند إلى فكرة ازدواجية الأمر الأخلاقي المطلق؛ حيث أنّ له وجهين: أخلاقي وقانوني. الأوّل يخاطب النيّة الحسنة للشخص وما يُضمره، بينما يرتبط الثاني بمَلَكة القسر ويسوّغ العقاب وفق القانون الجنائي الساري في كلّ بلد، مضيفاً أنَّ القانون الأخلاقي عند كانط يؤسّس للقانون المدني من دون أن يحلّ محلّه، وترتبط فلسفة الأخلاق بفلسفة القانون، وفلسفةُ القانون بالفلسفة السياسية.
يرى بناني أنّ التصور الكانطي للعقاب والقانون الجنائي لا يخلو من نقاط ضعف؛ يعود بعضُها إلى أنّ كانط لم يكن يفكّر من خلال منظومة قانون جنائي مكتملة، مثل تلك التي وفّرها القانون المدني النابليوني سنة 1804، كما أنّ نظريته في العقاب وفي القانون الجنائي صيغت قبل تبلوُر معالم المنظومة الكونية لحقوق الإنسان بعد 1948، وقبل الدور المتزايد الذي اضطلعت به العلوم الاجتماعية في مسارات إصدار الأحكام القضائية وتنفيذها، وخصوصاً علم النفس وعلم الجريمة وعلم الاجتماع.
وفي رأي بناني، فقد أدى ذلك إلى جعل فكرة العقاب ــ باعتباره وسيلة للقصاص ووسيلة إلى إعادة التوازن الذي خلّفه ارتكاب الجريمة بين المذنب والضحية ــ تفقد بريقها، ولم تعد بالقيمة التي منحها لها كانط؛ حيث أنّ إلزام القوانين الجنائية باحترام حقوق الإنسان والدور الذي اعتُرف به للعلوم الاجتماعية في تفسير أسباب الجريمة، وكيف يمكن للمجتمع معالجتها ومنح المذنب الحق في التخفيف من العقاب تحت مسمى ظروف التخفيف، كلُّ ذلك جعل فكرة كون العقاب قصاصاً تتراجع لصالح فكرة العقاب الذي ينشد إعادة تأهيل المجرم من أجل إعادة إدماجه داخل المجتمع.
وأضاف المحاضر أنّ ذلك يُبرز حُدود التصوّر الكانطي للفقه الجنائي الذي تَميّز بضربٍ من الصرامة في ضوء مستجدّات فلسفة الأخلاق في علاقتها بالقانون، ولكنّ ذلك لا يعني أنه قد أغلق الجدل نهائياً حول نظرية كانط في العقاب؛ إذ نجد مثلاً الفيلسوف الأميركي المعاصر جويل فاينبارغ يحاول تخفيض وجه الصرامة الذي ميّز النظرية وإعادة تأهيلها لجعلها قادرة على استيعاب أفكار مثل الرحمة والصفح وسقوط الجريمة بفعل التقادم، مع الحفاظ على فكرة القصاص والاستحقاق.
يُذكَر أنّ محاضرة عزّ العرب لحكيم بناني تندرج ضمن سيمنار الفلسفة السياسية لـ"برنامج الفلسفة" في "معهد الدوحة للدراسات العليا"، والذي يمثّل موضوعُ "السيادة والمشروعية في الدولة الحديثة" محوَره خلال العام الجاري.