شاعرٌ أول - مزاج النزَق
ها أنذا أمرّ على الكلمات
أطفئها واحدة بعد الأُخرى
كما يفعل الحارس مع أضواء المسرح
هكذا علَّمتكِ الحكمة الذئبةُ،
هاكِ ما علّمني النزقُ العصفورُ:
ها أنا أمر على الكلمات
أضيئها واحدةً بعد الأُخرى
كما تفعل الريح مع أجفان الشجرة.
*
يتوقّف الوقت مثلنا أحياناً
يصبغُ شَعره
يغني مع داليدا:
Avec le temps va
يأخذ عطلة من نفسه
يعقد ذراعيه
عند الناحية المطلية من المرآة
يُخرِجُ من بين فخذيه نصلاً
أحدَّ من صديقه الموت
الوقت أيضاً يحبُّ أن يمارس الحب.
■ ■ ■
شاعرٌ ثانٍ - مزاج الغضب
الرَّجُل في المصحّ حين يظنُّ أنه قداسة البابا
هؤلاء هم الشعراء حقاً
أما أنتم حين تكتبون القصائد
أطباء أسنان فاشلون
تحشون الضرس الأجوف للحزن
بالمادة الصلبة.
*
ما أقبحها يا فلوبير
تلك الجمل الصافية التي تحبّها
"معتدلةً وقائمةً
حتّى وهي تركض"،
أحبُّ الشعر كتاباً قاسياً كالأرض،
وجهَ الحيوان القديس
معترضاً على المعرفة،
البَرَد الساقط يكسر عنقَ الثمرة
القلب حين يمدحُ طعنةً تغسله.
*
يقف عصفورٌ
عند رأس أبي الهول:
أيها الأسد العصيّ على التاريخ
أنفكَ الذي في بطني
هلّا استرجعته الآن؟
■ ■ ■
شاعر ثالث - مزاج الدم
الحياة رقيقة
تسمية الأشياء
تكسرها حتماً.
*
أرى رجالاً بجباه عريضة
أرى توابيتهم ملفوفة بالعَلم
أرى الزجاج أُمّاً مهشّمة.
*
صوتُكِ غبار الطَلع
النارُ في آخر الحريق
تفسير الشاعر للشجرة في الريح.
*
الليل مشقوقٌ كثمرة الجوز
يدكِ تحكُّ جرحاً يابساً
ينزل الدم على الكلام
قطرةً فقطرة.
*
أسخيليوس يفتح الكتاب
يخرجُ رجالٌ بقمصان سود
يسحبون المسدَّسات من تحت ثيابهم
مفاتيحاً للأبواب التي أغلقها الإله.
*
التاريخ وثن
كلب الأسنان المتينة
يعدو بلا كلل
خلف الصلبان الهشّة.
*
قبضة الملاكم فوق وجهي
لكني أتأمل قُفّازك
معجزة تفسّخ حريره الرقيق
لأنام فيه.
■ ■ ■
ابتهالٌ إلى ربّات الإلهام
(ليس طيشاً
أيها الولدُ
أن تقطع رأس الدمية
هو ذا التاريخ
يمدّ لنا الرؤوس المقطوعة
مجموعة من التُّحَف)
اقتَرِب أيها الشِّعر
ولو كان بيننا ثأرٌ قديم
سأضعُ جانباً تلك الحربة المسنونة
التي أحملها لقتل الرب والذئب والذكريات
وأنت اقترب حاملاً وردتك الوحيدة
ندفن تحت الطاولة الكتب والحب والضحايا
ونصالح مثل جنرالات الحرب
مُثقَليَن بالندم والمجزرة
ألقِ التحية على بيزنطة وجارتي الأرمنية وآبائنا المحاربين والصِّبية في دكان الحلاقة
على قريتنا قبل أن تدمّرها طائرات يوشع بن نون.
■
دو
لا عصافير تهبط من برج الكنيسة
لا أنبياء يخرجون بأسلحتهم
من العهد القديم
امرأة حليقة الرأس تُطلّ برأسها من فوق السور
تنظر في عين الفاتح
ثم تجرّ كلبها الأعمى من عنقه
مات الحُرّاس في الشتاء
مثل الذي يستعجل أن يسدد دَيناً للتاريخ
تركوا سُلّما معلّقاً وباباً مفتوحاً
بابٌ وحيد علّقوا فوقه رسالة للغزاة
الكلمة فيها تنكرُ الكلمة،
قسطنطين لا يقوى على البكاء
يهبط الليل باكراً على المدينة في نيسان
كانوا قد كتبوا على تاجه
أن الدموع قد تدفع الشمس عند مشرقها
وحين تأفل، فإنها تسجد للسيف،
ملك بيزنطة الأخير
يودع جفن العذراء في الأيقونة
ثأرَه المؤجَّل.
■
ري
جارتي الأرمنية
تؤنّث المذكّر في كلامها
لعل السيف القديم
على عنق جدّتها
يصير وردة.
■
مي
آباؤنا المحاربون
نحن أبناؤكم البُكم
نبدّد مجدكم بأجسادنا المريضة
نحبو في الظلمة
نبصق على الحب
ونجعل من خوفنا دِيانة
آباؤنا الثمرةُ الفجّة في الريف
ماتوا بعدها بالرصاص
والناجون حقنوا بأدوية الكيمو في المشافي،
يطرق باب الأرملة رجُلٌ
يضع كيس التفاح الثقيل قرب الباب
تتدحرج تفاحتان أو ثلاث
ضوضاء، صوت عصفور على العتَبة
شجر الحور المتروك للريح فوق التلة،
الراقصون فوق الحبل في السيرك
الواقفون فوق الألغام وهم ينظرون للسُّحُب.
■
فا
صبيةٌ يقذفون الكُرة
سطر نثرٌ ركيك،
تدخل الكُرة دكان الحلاقة
تُصيب الشفرة على عنق الرَجُل
جملَة شِعر متينة
تسيل فوق المنديل
لا يحب الموتُ رأسك
الموتُ سؤال يبغضُ الأسئلة
يحبُّ الموتُ جسدكَ المتسعَ بالموسيقى
إنه هديته المستحقة
بجعة تهدي عنقها لسكين الماء.
■
سو
قريتنا قبل أن تدمّرها طائرات يوشع بن نون:
- المكان -
مئذنة مضافةٌ إلى اسم السهل
الشجرةُ إمامُ الجماعة
خلفها سطرُ الهندباء
غيمُ الإقامة يطوف حول البيت.
■ ■ ■
لا تصدّق أيها القارىء شيئاً مما أقول
الكوابيس التي تبقى من الليل
ثمار التين في آخر الصيف
العشب الهائم على الجدران
ذكريات الحب فوق دفتر أسود صغير
"برج الحمام" العالي والمسوّر في الأغنية:
هذا شخصٌ تُرمى أشياؤه من النافذة
وأنتَ أيها القارىء
إن عثرتَ عليها في الطريق
كقطعة عملة معدنية
لا تدُسّها خلسة في جيب ثوبك
بل دعها تشقّ طريقها للنسيان
كأنها الحكمة،
لا تحبّ الكلمات بيتي ولا قلبي
تحبُّ الكلمات شقة الجيران
في الأعلى
تارة تأتي عنيفة
مثل السرير حين يرتجُّ ليلة السبت
وتارة تأتي ناعمة
كصوت الملاعق المعدنية في العشاء
لكن أكثر ما تحب الكلمات
أنها مثلهم، لا نعرف لها وجهاً
غير الصوت
هذا آخر الصوت:
احرقوا الجثة
ضعوا الرفات في صندوق صغير
لا تأبهوا بعدها بالريح،
كذا كتابي
جرّةُ رماد
تركتُ لك عند بابها
ثغرة صغيرة
اقترب منها أيها القارىء
بخفة العصفور
لوّن جناحيك
ثم سدّ الثغرة برفق.
* قصائد من مجموعة "أرني وجهك أيها الهارب" الصادرة هذه الأيام عن "منشورات الجمل"
بطاقة
شاعر ومترجم وأكاديمي لبناني، من مواليد عام 1977. صدرت له، قبل "أرِني وجهك أيها الهارب"، سبعة دواوين، من بينها: "فصلٌ خامس للرحيل"، و"صلاةٌ تُطيل اللوز شبراً"، و"ذاكرة القرصان"، و"شمعتان للمنتظر". يعمل أستاذاً محاضراً في كلّية العلوم بـ"الجامعة اللبنانية". نقل إلى العربية مجموعة من الأعمال، مثل: "المأدبة السنوية لأخوية حفّاري القبور" لـ ماتياس إينار، و"حدّادون وخيميائيون" لـ مرسيا إلياد.