رغمّ ادعاءات الحريّة والموضوعية، تبدو الصحافة الفرنسية مُهادنة، إن لم أقل خاضعة لسطوة "منظمة الكريف" (المُعادل الفرنسي للأيباك الأميركية)، تُمارس الصمت الإجرامي إزاء كلّ الانتهاكات الصهيونية. هذا موقفٌ صار من كلاسيكيات الصحافة الفرنسية، باستثناء بعض المواقع التي ظهرت في السنوات الأخيرة، والتي تُمارس بعض النقد، ولعلَّ أبرزها "ميديا بارت"، و"أوريان 21" وموقع "فولتير"، ومنصّتا "فرنسوا أسيلينو" و"آلان سورال"، والكتب التي تصدرها جماعته وترفع شعار الثقافة المضادّة؛ فإنَّ التيار العام للميديا الفرنسيّة ظلَّ في جوهره استعماريّاً معادياً للعرب والأفارقة والمسلمين.
التزييف والكذب الإعلامي، يجري داخل فرنسا أيضاً، وأبان عنه التعامل مع أصحاب السترات الصفراء الذين كشفوا زيف هذا الإعلام، عندما شيطنهم وغطّى عن تجاوزات البوليس الفرنسي، لأنّهم أيضاً معادون للصهيونية. ولكنَّ الفضيحة الأخيرة تجاوزت أحجام الفضائح الأُخرى.
عندما يتعلّق الأمر بالمصالح، لا يختلف موقف الدولة الحداثية، المتغنيّة منذ أكثر من قرنين بمبادئ حقوق الإنسان التي جاءت بها الثورة الفرنسية، عن موقف أي قبيلة بدائية في مجاهل الأمازون، خصوصاً عندما تشعر بالتهديد. ينسى الناس أنَّ فرنسا، والغرب عامّة؛ وعلى الرغم من إعلانهم دستور حقوق الإنسان منذ حوالي ثلاثة قرون، ذهبوا بكل يُسر إلى الشعوب الأُخرى، ومارسوا عليها أنواعاً خيالية من القتل والتصفيات العِرقية والثقافية. أجل الثقافية، التي تُجرِّب اليوم نسختها الجديدة في بُلداننا بواسطة جيشٍ من النُّخب المُستلَبة من رُسُل الحداثة، وهم في حقيقتهم فيروسات ثقافية تعملُ على تخريبِ وعي الشعوب بهوياتها اللّغوية والدينية للقضاء على أساطيرها المُؤسّسة.
ظلّ التيار العام للميديا الفرنسية في جوهره معادياً للعرب
لا توجد هويات عقلانية أو عقائد عقلانية، فبعد استباحة الأوطان، ها هم يستبيحون وعي الشعوب بواسطة جمعيات على غرار مؤسّسة "مؤمنون بلا حدود"، ومواقع كثيرة للإعلاميّين العرب، الذين تحوّلوا إلى فقهاء وفلاسفة من أمثال الصحافي المصري إبراهيم عيسى، الذي يتكلّم في الإصلاح الديني كما لو كان وريثاً شرعيّاً للشيخ محمد عبده. يُمارس هذا الرجل خطاباً أيديولوجياً، ويحسب أنّه يتكلّم في اللاهوت.
أيّة حقوق إنسان! في أستراليا، وحتّى وقت قريب من ثلاثينيات القرن الماضي، كانت هناك مكاتب تمنح مبلغاً معلوماً لأيّ مهاجرٍ أبيض يأتي بالأذن اليُمنى لأحد السكّان الأصليّين، ما يعني أنّه قتله.
لكن الفضيحة الأكبر لزيف هذا الإعلام تتمثّل في التغطية المُستمرّة منذ قرن على الإجرام الصهيوني، والانتهاك الفادح لحقوق الإنسان الفلسطيني.
هكذا بقيت هالة الميديا الفرنسية، والغربية عامة، مقدَّسة وطاهرة، لا سيّما في أدمغة بعض النُّخَب المُستلَبة من أبناء المستعمرات الفرنسية القديمة وخاصّة من بين الفرانكوفونيّين والمغاربيّين واللبنانيّين.
* شاعر ومترجم تونسي مُقيم في أمستردام