فضَح عدوان غزّة الأخير الازدواجية القاتلة في المعايير. ومع أنّ الفضيحة مستمرّة منذ عقود، تفاوتت فيها ردود الفعل الدولية ومواقف الجماعات المؤثّرة وآراء المثقّفين فاختلفت هوامش مناوراتهم بين العجز والقدرة، بين الصمت والتأثير، بحسب المصالح والتحالفات بما فيها الدنيء أحياناً، لا بحسب جوهر المعاناة وحقيقة ما يجري على الواقع باعتباره إجراماً ينبغي أن تتّحد إزاءه التقييمات: احتلالٌ مُدانٌ بكل مقاييس القانون الدولي.
وفي الأزمة الأوكرانية، وجوهرها احتلال قوّة أجنبيّة لأرض ذات سيادة، حشد قادة أميركا وأوروبا دولَ العالم ولا يزالون مع ضخّ عشرات المليارات للتصدّي لهذه العمليّة العسكريّة، وهو ما يكفي لبناء مدن بأسرها، ولكنّ هذه الدول عجزت عن إدخال قطرة وقود واحدة إلى موظّفي "أونروا" الذين يُعدّون من ذويها، كما عجزت ولا تزال عن إيقاف التدمير الهائل والتقتيل المستمرّ لمئات الأطفال والنّساء والشيوخ.
وممّا يحيّر فعلاً هذا التباين بين ما سمّاه الكاتب التونسي محمود المسعدي "التقادُر" الذي يُصار إليه كلّما اقتضت المصالح الغربيّة ذلك؛ حينها يهبّ القادة على جناح السرعة وتنعقد القِمم وتُخلق الموازنات الماليّة الضخمة في لمح البَصر، وبين العجز الكلّي حين يتعلّق الأمر بفلسطين، حيث تُشلّ حركة هذه الدول نفسها وتتعطّل قُدراتها على التأثير، فلا تنبس ببنت شفةٍ ويُترك المعتدي يواصل اعتداءاته في شبه صمتٍ كامل وتواطُؤ مشين، ممّا يعني أنّ هذا العجز تُعلّله المصالح وتبايُن الأوضاع الجيوسياسية، وهو ليس عجزاً بنيوياً ثابتاً، ولا يتوقّف على المبادئ والقيم التي تُرفع بحسب الحاجة.
تباينٌ سافر في المواقف بحسب ما تقتضيه المصالح الغربية
وأغرب من ذلك، عطالة الهيئات الأمميّة ومجموعات الضغط ومنظمّات حقوق الإنسان التي تصمت فجأةً، حين يتعلّق الأمر بفلسطين وذويها، في حين أنّها كانت تقيم الدنيا ولا تقعدها حين يكون الضحايا من ذوي البشرة البيضاء. وهل ننسى ما ساقوه ضدّ قطر أثناء تنظيمها لكأس العالم من اتهامات بدعوى الاهتمام بحقوق الإنسان والقلق على ظروف العمّال الأجانب، وغير ذلك من التعلَّات الواهية؟
قد تكمن العلّة العميقة لهذه العطالة في المركزية الأوروبيّة التي تُفاضل بين إنسان وإنسان، فتتحرّك تجاه الفرد الأوروبي الذي تعدّه، دون أيّ سند فلسفي أو قانوني، أفضل من غيره. لذلك لا يرفّ لها جَفنٌ حين يتعلّق الأمر بما يجري في فلسطين وفي سائر البلدان العربية والأفريقية، كأنّ إنسانها لم تكتمل ملامح بشريّته ولا يستحقّ التعامل نفسه. ولْتَنتظر المساواة والعدالة والشرعية على رفوف الهيئات الدولية التي تكتفي بردود فعلٍ أقرب إلى الرمز، الغرض منها رفع العَتب ومداراة بعض الدول العربية النافذة لمواصلة الاستفادة من امتيازات اقتصادية، كتوفير الغاز والنفط.
فالهيئات الدولية التي طالما سارعت إلى التصريحات وبادرت إلى التنديد كلّما "ماتت دجاجة" في جهة الغرب، تبلع ألسنتها تماماً، وتختلق كلّ الذرائع لعدم التدخّل، في لامبالاة لا يُمكن تصوّرها؛ إذ لم تفلح حتى في إصدار بيان إلّا بعد مضيّ أكثر من خمسين يوماً. وقد شاهدنا كيف أجمعت هذه الهيئات على إدانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وكيف تحالفت كلّ دولها من أجل تضييق الخناق على الدبّ الروسي.
ويبلغ العجز منتهاه لدى الدول العربية - الإسلامية التي تصول وتجول في ميدان الخَطابة والتحرّكات الكلامية ومهرجانات الشجب، إلّا أنّها على أرض الواقع أعجز من أن تجسّد القرارات التي تتّخذها، مثل ما ورد أخيراً في بيان قمّة الرياض. ويصدق هذا العجز على سائر الهيئات المرتبطة بها؛ مثيل "الجامعة العربية" و"منظمة المؤتمر الإسلامي" و"الاتحاد الأفريقي" وغيرها، التي اكتفت ببياناتٍ ظلّت حبراً على ورق. وتصدق هذه العطالة على المثقّفين والفنّانين والرياضيّين الذين شُلّت أقلامهم وألسنتهم على حين غِرّة وقد كانت من قبل تهدر هديراً.
ولا مفرّ من التساؤل عن دواعي هذه العطالة: هل هو نضوب القضية الفلسطينية في ضمائر الأمّة بعد سنوات عجافٍ من التطبيع والتقاعُس عن إيجاد حلّ فعليّ على خلفيّة خزعبلات دبلوماسية لا تُغني، كتلك التي أطلقها غاريد كوشنر مطلقاً عليها "صفقة القرن" في صلَفٍ مقيت؟ أم هل هو خوف هذه الدول من أن تلاقي مصيراً مماثلاً لما لاقته غزّة؟ وإن كان هذا كذلك، فما قيمة هذه الأسلحة الباهظة التي لا تتوقّف عن اشترائها وما معنى الهرولة إلى التحالف مع الشيطان، إن لم تقِ هذه الخطوات من مصير قاتل؟
ردود فعل أقربُ إلى الرمز الغرض منها رفع العتب
هكذا ترسّخت العطالة فَشَلّت ضمائر الدول الغربيّة وحتى العربيّة ومنعتها من التأثير في القرار الإسرائيلي الذي هو أشبه بانتقام جنونيّ منه بموقف سياسي أو خطٍّ عسكريّ، حيث وقف المجتمع الدولي موقف المتفرّج، عاجزاً أمام الثور الأهوج الذي أتى على الأخضر واليابس، دون أية ردّة فعلٍ. نكرّرها: ممّا الخوف إذن؟ ألم تُظهر المقاطعة الاقتصاديّة التي قادتها المجتمعات العربية في ضرب من السذاجة أنّها سلاح فعّال ولو رمزيّاً؟ هل هو الطمع في الحصول على امتيازات إضافيّة من الغرب؟ لكن أليست الدول العربيّة مِن أثرى المناطق في العالم؟ فما الذي تحتاجه من دولٍ هشّة؟
هذه العطالة إذن موقف ذهنيّ - نفسيّ تلبّس بالقادة حتى شلّ منهم كلّ قدرة على التفكير والحركة. وقد يبرّرونها بمبدأ الواقعيّة أو البراغماتيّة، وهذا في الحقيقة تزييف للواقع وتضخيم له، لأنّ التاريخ يُصنع بالرفض والمبادرة والغِلاب، وليس بالخنوع والرضوخ والاكتفاء بلا شيء. العطالة شلٌّ لدفق التاريخ وضرب لحيويّته الخلّاقة. في المقابل، الاقتدار الحقّ هو إرادة التأثير في خطّ التاريخ وتوجيهه حسب المصالح والغايات. وما لجوء القادة ومثقّفي السلطة إلى ذريعة القبول بالأمر الواقع إلّا تبريرٌ أيديولوجي للتقاعس، وحتى للخيانة والطعن من خلف.
ففي فلسفة التاريخ، تقاس الحركة بمدى الاقتدار على خلق المنعطفات وإحداث الثورات والقطائع المؤدّية إلى تغيير النموذج (paradigme) الحاكم في الأبنية الثقافيّة والسياسيّة وقلبه رأساً على عقبٍ. فهلّ ستستغلّ الأطراف الفاعلة في الملفّ الفلسطيني عدوان غزّة من أجل صنع التاريخ وإنهاء معاناة استمرّت لعقود حتى يأخذ "الشرق الرهيب" جهة أخرى غير وجهة العطالة التي ستؤدّي جذوات التمرّد الكامنة فيها إلى تصعيدٍ لا تُحمد عقباه، مثل ما حصل في السنوات العجاف التي سبقت السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس