عن شوارع المخيم وأشياء أخرى

04 اغسطس 2024
عمل للفنان الفلسطيني أمجد غنّام
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تأمل الواقع المرير في غزة**: يدعو الكاتب القارئ لتأمل تفاصيل الحياة اليومية في غزة لفهم عمق المأساة، حيث تحولت المدينة إلى مقبرة حية مليئة بالدمار والموت.

- **وصف الجحيم اليومي**: يصف الكاتب معاناة سكان غزة، من الأطفال الذين يموتون تحت الأنقاض إلى الأحلام المحطمة، متسائلاً عن الإنسانية والصحة النفسية في ظل هذا الدمار.

- **قصص الشوارع والبيوت**: يروي الكاتب قصص الشوارع والبيوت المدمرة، حيث تتحول أعمدة الإنارة إلى حطب للطهي، والأطفال يواجهون الدبابات حاملين علم فلسطين، مختتماً بدعاء لإعادة الحياة إلى غزة.

عزيزي القارئ، 

قبل أن تشرع في قراءة هذه الشهادة، أدعوك أن تذهب نحو الشرفة أو النافذة، تأمل البيوت الملاصقة لبيتك، الشوارع بأزقتها وتفرعاتها، أعمدة الإنارة، الإشارات الضوئية، خط المشاة، الإعلانات. تأمل المارة والباعة، ركز جيدًا في تفاصيل الأشياء هناك ثم عد إلى شقتك، غرفتك وأعط عينيك فرصة تأمل الجدران، لون الطلاء والصور، اللوحات وشهادات التقدير والتكريم، وقبل أن تغتسل بالحزن معي، اذهب نحو فراش زوجتك وأطفالك، قبلهم كأنك ستراهم للمرة الأخيرة، احضُنهم بحرارة، ثم تعال معي متوضئًا لنتلو صلاتنا في هذا اليباب العظيم. 

■ ■ ■ 

كيف يمكن للكلمات أن تعبر عن الجحيم الذي اغتصب أرواحنا؟ كيف لنص أو قصيدة أو حتى رواية أن تصف ما نعيشه الآن وقد باتت غزة أشبه بمقبرة استيقظت حجارتها، فأعلنت الحرب على اللحم؟ انتفض كل ضريح فيها، ونهض كل جسد هالك ثم تجمعت العظام لتصنع فرانكشتاين أو هولك أخضر أو حتى زومبي، لعلها تستطيع حماية نفسها ممن استباحوا دمها وبقروا أحشاءها عند معبد الرب. كيف للكلمات أن تعبر عن صراخ الأطفال الذين قضوا تحت الأنقاض؟ كيف كانت أحوالهم؟ هل كانوا يئنون، يتألمون، أم أنهم غادروا إلى السماء بسهولة، كما قالت الأديان: إن الشهيد يموت في لحظته كأنها قرصة نحلة.

ماذا كان حال جارتنا التي حلمت بالحصول على علبة تونة قبل أن تتناثر الشظايا في صدرها لتصير وردة حمراء؟! وكيف استقبل العجوز خبر استشهاد عائلته بالكامل في مخيم الشاطئ، بعدما نزح باتجاه الجنوب مع زوجة الابن الأصغر وأطفاله؟! هل نحن بشر عاديون؟! وهل بعد كل هذا الدمار والموت وفقدان الشعور بالحزن، الحزن العادي ما زلنا أصحاء نفسيًا؟ أم أن الجنون تسرب إلى الجنين في بطن الأم التي أبصرت الجثث أثناء محاولتها الهرب إلى شارع الرشيد كي تحظى بحفنة من حياة؟ وبعدما تسرب مع الهواء الملوث بالبارود والجثث المتعفنة ورائحة الصرف الصحي والقاذورات المنتشرة كما الهشيم. 

ولأن الطريق محفوف بالركام، الدمار هائل كمعزوفة نشاز، كان لا بد من الصراخ، النداء بصوت مرتفع، فالأضرحة المتناثرة في الشوارع كأنها من طين الأرض ما عاد يبصرها المارة، بعدما صارت شرعة ومنهاجًا، قبور لأشخاص يشبهون أي قصة عابرة نسي خلالها الأحياء أن العاصفة لن تمر وأن الطوفان تعاظم حتى وصل إلى الفردوس، والله في عليائه يعيد تشكيل الأرض ومن عليها؛ فلكل طفل أو شاب أو امرأة أو عجوز في رحاب المدينة حكاية، وكل مدينتنا تائهة، كانت لها ألوان تشبه تلك التي غرقت بدم طفل حين باغت العمارة السكنية صاروخ غادِر ذات ظهيرة. 

الطريق هو الطريق، عدا أنه بات مقبرة كبيرة، حُفر وتلال، لأجساد دُفنت بشكل غير مرتب؛ كي تتوحد مع الأرض ثم ترتبط بالسماء، ويصير الرمل في كل زقاق أغنية ثائرة، إذ كان لا بد من أن يعود الفلسطيني إلى هيئته السابقة، يعيد إنتاج نفسه بشكل مجنون، إن الفلسطيني كالعنقاء، ينبعث من الرماد، ويصير غولاً، يكبر ويكبر، يلتحم بكل الأبنية المدمرة، المساجد التي قُتلت قبابها، الكنائس التي صارت خرابًا، حتى يضج جسده بالشرايين والأوردة التي انفرطت كمسبحة في دم أصدقائي داخل النفق، تضخ دماء الشهداء فيه إكسير الحياة، يمسك في يده بندقية، وخلف ظهره كمنجة، يعزف التراتيل إلى الله، يقرأ كتابه بيمينه ويصلي، ثم يطير مثل سبايدر مان أو أيرون مان، يمسك بالرصاصة التي تقنص الطفل ويعود بها إلى الجندي الذي يقامر رفيقته على ليلة حمراء بلا كوندم، يضعها في عضوه الذكري لئلا ينجب مزيداً من الأشرار، يعود مجدداً ليضرب الدبابة التي قصفت عائلة جائعة، كانت تنتظر المغرب في رمضان كي تفطر بسلام على حبات تمر يابسة، يموت الجنود في كل مرة، وتبعث الحياة في روح الأبرياء، ينبعث الأمل في وجه الأطفال الذين استيقظوا فزعين لسبب لا يعرفونه، وجوههم مغبرة والجروح خريطة وطن ممزق.

كيف لنص أو قصيدة أو حتى رواية أن تصف ما نعيشه الآن وقد باتت غزة أشبه بمقبرة استيقظت حجارتها

تشرئب أعناق النساء اللواتي تشبثن بالحياة حتى آخر رمق، لكن جنديا ساديا يحب إشعال السجائر وإطفائها بأجساد الفتيات الفاتنات، فقرر ممارسة اللعبة بحق المئات منهن، يقضمن إصبعه، يبحثن عن قلبه ليكتشفن المصيبة: إنه بلا قلب، إنهم بلا قلوب، وعقولهم المتكلسة حديد صدئ.

يخربش الجندي النزق على جدران مدرسة للاجئين رسائل إلى حبيبته في الكيبوتس أنه قتل الجنين في بطن أمه واغتصب عربية مسلمة قربانًا للرب، كي يدرك المارون على شريط الذاكرة، كم كان القتلة أطفالاً، مراهقون، اكتظوا بالحقد وتشبعوا بالكراهية، كي يسحقوا وجه المدينة، والمدينة كما الأنبياء سيرة لا تموت. 

الطريق إلى مدينتنا أحجية، مقطوعة موسيقية حزينة، تشبه معزوفات ياسر عبد الرحمن وعمرو خيرت، لا لون فيها غير الأسود، وفي الممرات بيوت، في البيوت جدران، وعلى الجدران صور، في كل صورة ذكريات ضلت طريقها وتاهت بين البارود واللهب. هذه صورة الطفل الذي حصل على المركز الأول في سباق المائة متر سباحة، كان الأب يضحك والأم تزغرد، تلك صورة لجد مات قبل أن يبصر الفاجعة. هذا اللوحة لفنان محلي مغمور، يحب احتساء عصير الليمون بالجرجير، كتب أسفل لوحته: إهداء إلى أجمل النساء، زوجتي. 

هذه شهادة تخرج لشاب من الجامعة بتقدير امتياز، وتلك صور عائلة، بعضهم هاجر إلى غير رجعة، والآخر قتل في ظروف مختلفة، معارك وحروب كثيرة لم تترك المدينة تهنأ بشيء من حياة. 
بين الركام صور وأوراق ووثائق، لكل واحدة منها مواعيد وحكايات وظروف، بعضها تسكنه السعادة، والبعض الآخر يعتريه الحزن، هنا شهادة ميلاد، ورقة طلاق، ورقة من المحكمة ورسالة من أخ يقطن في بلاد الثلج، كتب إلى توأمه في مخيم الشاطئ أنه تعب من السفر ويريد العودة لكنه يخشى الاغتيال. 

"لقد اغتالوا كل شيء". هكذا كتب طفل بعين واحدة جملته تلك داخل مدرسة أسماء التابعة لوكالة الغوث بعد أن صارت مركزًا للإيواء، بينما رسمت طفلة أخرى فقدت قدماً بيوتاً ملونة بالأسود والرمادي، وفوق البيوت شيطان، له عينان تشبهان طائرة الإف 35، وفي النزوح تصير اللوحات طائرات ورقية تحلق أعلى من طائرات الاحتلال، والأطفال يغيبون حتى تختفي الشمس ويضل العابرون الطريق. 

نجلس في الطرقات، نعد غالونات المياه، نبحث عن شيء نشغل أنفسنا به، بعدما فقدنا بيوتنا وجامعاتنا ووظائفنا، نتعارك في شراء علبة بازيلاء، أو تأخير خزان مياه صغير، نهرول نحو رجل يبيع الماء البارد عند ناصية المخيم، ندفع أعمارنا لأجل الحصول على طرد غذائي تلقي به الطائرة من أعلى، لأن الإسرائيلي يحاصرهم أيضًا، يمنع إدخال المساعدات إلى مدينتنا بشكل حضاري، ثم نعود بخفي حنين. ويعود شاب مسجى على النعش: لقد سقط المنطاد فوق رأسه فمات، هكذا بلا مقدمات، ينتهي كفيلم قصير، في تسليم كامل لأب خسر كل ما يملك من أجل الحفاظ على أبناء غادروا واحداً تلو الآخر نحو السماء، كأنهم ذهبوا إلى غرفة مجاورة، ولا بكاء في الحارة. 

الشارع قصص، والبيوت المدمرة التي تتكئ جدرانها على أخواتها في المخيم أغنيات

في الشارع نبحث عن أعمدة الإنارة، إنها تصلح لطهي الطعام، نحتطب بعدما نسينا غاز الطهي والكهرباء، خشب الأعمدة رائع، لكنها لا تكفي من فقدوا بيوتهم في شمال غزة، والنار تصير غابة من حرائق، النساء يبحثن عن الطحين، بينما يحرق التنور أجسادهن، ويموت الشاب اليافع في زقاق يطل على البحر بعدما رصده جندي حاقد من خلال طائرة الكواد كابتر، يحمل فوق رأسه خبزًا، وفي يده علبة فول، كان ثمنها قبل الفاجعة ربع دولار. 

الشارع قصص، والبيوت المدمرة التي تتكئ جدرانها على أخواتها في المخيم أغنيات، القاذورات التي تناثرت باتت تؤرق مضاجع من لا أسِرّة لهم، والرجال المتخمون بالخوف يحملون أشياءهم ليهربوا من الحياة إلى الموت، الموت في الحياة، والهرب من الدمار الهائل بالتحول إلى سنابل، تذروها الرياح كي تنتفض الأرض وتخرج أثقالها، تتشقق التربة ليخرج الأطفال في مواجهة الدبابة، عراة من الخوف والجوع والعطش، يحملون علم فلسطين، يتحدون به الذين رفضوا إعادة الحق لأهله، يصعدون فوق الأبنية المدمرة التي تشبه قطع البسكويت، يرفعون العلم ويكبرون، كأنهم انتصروا على الطائرات التي تحلق في الأعلى، السفن الحربية التي تملأ البحر، والدبابات التي سقطت في فخ غزة. 

شوارعنا قصص، انطفأت وقد آن الأوان أن نعيد سيرتها الأولى، نكتب خلالها عن الحب، حب الضوء، وعشق الشمس.. حب الأطفال وحب النساء والحياة؛ فأعد لنا يا الله أطفالنا من القبور التي أغرقت الشوارع، ونساءنا من جنوب المدينة كي نحضنهن مثل القراء الذين لم يشعروا بعد بما نعيشه الآن.. أعدهم واصنع لنا جنتنا في غزة، وليهنأ الآخرون بفردوسهم المفقود.

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون