غادة الزغبي.. بيروت تتكلم من مبانيها

06 فبراير 2022
من المعرض
+ الخط -

جاء معرضُ غادة الزغبي الذي أقيم في "غاليري جانين ربيز" في بيروت بموضوع واحد. إنه في الغالب ذلك المبنى الوحيد الشاغر، أحياناً بواجهة عملاقة أو المكشوف أحياناً بحيث تظهر شرفاته وأسيجتها، أو هو جانب من مبنى يبوح بنوافذه وطوارقه، أو هو بناء نصبي حجري وسط فراغ. أي أننا أمام هذا البناء الحجري الذي يكاد يكون هو نفسه، يتوزع على لوحات تتفاوت في الحجم تفاوتاً ملحوظاً، فهناك لوحات ما بين الـ15 سنتم والمترين والنصف. 

هذا المبنى هو الشخصية الوحيدة، وحين نتنقل ولو بشيء من التعدد من لوحة إلى أخرى، يجعلنا ذلك نفكر بأننا أمام رواية واحدة، كما ينقلنا فوراً إلى بيروت التي هي اسم آخر للبنان. قد يتراءى لنا أن اختيار الموضوع نفسه تقريباً لكافة اللوحات التي شغلت المعرض، ليس عبثاً. إننا بالتأكيد لا نقدر على فصل الموضوع عن بيروت، بيروت هي رواية المعرض، والمبنى الذي يدلّ عليها هو لحظة منها. لربما عندئذ سنفكر بالانهيار الذي يغرق فيه لبنان حالياً، سنفكر أن المبنى الذي يمثل الحياة البيروتية، الحياة اللبنانية التي هي الآن في نوع من التداعي، لم يكن بدون دافع. قد يكون تحية لمدينة، لحياة على وشك الغروب، بقدر ما يكون أيضاً وداعاً ومرثية، لكننا هكذا نستبق المعرض، وأحرى بنا أن ندخل إليه أولاً.

غادة الزغبي المولودة في العام 1980 هي من جيل شاب من الفنانين اللبنانيين. لن نجازف لذلك بالبحث عن لوحة عالمية وراء لوحتها، شأننا مع فناني الأجيال التي سبقت. لم يعد لهذه اللوحة العالمية التواتر الذي كان لها مع فناني لبنان الأوائل، الذين كانوا يسرعون إلى البناء على إرث عالمي، لوحة مشهورة. فنانو جيل غادة متعددو المراجع، إنهم يختارون لوحتهم بحرية وأسلوب يناسبهم. شيء من الشخصية ومن الخصوصية يجعلنا أمام لوحات مختلفة وأساليب شتى. لعل اختيار معرض بمفردة واحدة هو في هذا السياق.

لا نجد شيئاً أدعى إلى القلق من تقاطع هذه الفراغات

أن يكون معرض بكامله رواية لهذا المبنى، دليل على أننا أمام فن مديني، بل مبالغ في مدينيته. هذه المبالغة نستطيع أن نستشفها في اللوحات. لن نجد بسهولة وحياً خاصاً في لوحة لا تزيد عن كونها مبنى قائماً، أو جزءاً من مبنى.

الموضوع لأول وهلة جامد وفوتوغرافي وبدون أي إيحاء. البدء من مبنى قد يبدو أصم، وقد نجد صعوبة في استنطاقه واستشفافه. لكن لوحات الزغبي، ما إن تقع أعيننا عليها، حتى نشعر بأن فيها حياة أكثر مما توقعناه. إن هذه الفتحات والمربعات والانتصابات والارتفاعات، وهذه الدواخل والفراغات ليست مبتذلة وعادية إلى الحد الذي يجعلنا نغفل عن رؤيتها وتفحصها. إنها أمام أْعيننا تكاد تقفز من أمكنتها، تكاد خطوطها ومربعاتها تتحدى أبصارنا، بل ونشعر أنها ليست هنا منظومة من خطوط ومنحنيات وهندسات فقط، إنها ذات حضور حقيقي يهجم على نواظرنا. حضور يكاد يصدر عن حياة داخلية وراء الأشكال والخطوط وفي داخلها. 

لسنا مع ذلك أمام تركيب عصبي، إن تعبيراً هادئاً وحساساً ومتكاملاً هو الذي يخرج من هذا البناء الواقف أمامنا، بفراغاته ومكعباته. ليس المبنى هكذا جامداً، إنه بخلاف ذلك يقاوم لكي يبقى واقفاً. إنه يطل من فجواته، كما من خطوطه الطولية التي ليست هكذا بدون لوعة داخلية. 

لسنا أمام الدرج الصاعد في مبنى إلا في هذه الفجوة التي تستحضر فراغاً يكاد يموج تحته، ويكاد هكذا يهدد البناء ويتدفق، ولو بهدوء وقدر من السكينة، خارجه. ثم هناك تلك الواجهة التي تتقاطع عليها خطوط، هي أيضاً ملابس وستائر، هذه الواجهة تكاد تتكلم، إن ثمة حياة شخصية، بل وأسرار وخبايا، تلوح من على سياج الشرفة، وتتقاطع على الطوابق. 

من المعرض

لكن لسنا نجد شيئاً أدعى إلى القلق من هذه المربعات الفارغة، من هذه الفراغات التي في تقاطعها، تكاد توحي بعنف خبيء، بحياة على وشك الانفجار. لكن شيئاً من الحزن على هذا الجبين الحجري المجوّف، والعلامة المخطوطة عليه شيء كالضياع وكالنواح الخفي. حزن الخطوط الطويلة، التي تذكرنا، من بعيد، بالخطوط الطولية المبالغة لإلغريكو. إننا هنا أمام سكينة تشبه الحداد، أمام مرثية ضمنية لمدينة على وشك الغروب.. إنه الواقع وقد انقلب وصار إيحاءً. الواقع الذي، في تضخمه والمبالغة فيه، على وشك أن يغدو خارج نفسه، على وشك أن يلامس الأسطورة، على وشك أن يكون وداعاً وأنشودة فراق.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون