تحت عنوان "لعنة المالِينشِه"، صدرت عن دار "خطوط وظلال" (2020) مختاراتٌ من شعر أميركا اللاتينية. العنوان من اختيار المترجمة الفلسطينية المقيمة في نيكاراغوا غدير أبو سنينة، وهو اسم امرأة من سكّان المكسيك الأصليين، عملتْ مترجمةً لدى الإسبان، غزاة المكسيك ومدمّري آخر حضاراتها المعروفة باسم حضارة الأزتيك، فاعتبرها كثيرون من شعبها خائنةً، وأصبحت لعنةً بالنسبة إليهم، لاقتران اسمِها - كما تقول المترجمة - بحُبّ الغرباء والانبهار بهم.
ومع ذلك، تذهب المترجِمة إلى أن "بعضهم يعتبرها أمّ الأمّة المكسيكية"، إثر إنجابها لطفلة يُنظَر إليها كبذرة الاختلاط بين العرقين، الإسباني والأهلي. من هنا يأتي اعتقاد غدير أبو سنينة بأن ترجمتها لهذه المختارات لعنةٌ أصابتها هي أيضاً، يصعب التخلّص منها. يبدو أن هذا الربط بين الترجمة والخيانة مصدرُه تلك المقولة الذائعة بأن "الترجمة خيانة" على وجه الإطلاق. ولكنّ هذه المالينشِه - واللقب إسبانيّ - لا تختصر فعل الترجمة، ولا غاياته التي هي في هذه الحالة خدمةٌ للمستعمرين الإسبان. فالترجمة أسمى من ذلك بكثير؛ إنها فعلٌ مقاومٌ ومحرِّر في الماضي والحاضر، وإن كان لها، مثل أي ظاهرة إنسانية، وجهُها المعتم حين تصبح أداةً بيد الغزاة الهمج، كما كان حال غزاة المكسيك، الإسبان.
بعد هذا التقديم لمعنى العنوان، تلمّحُ المترجِمة، بإشاراتٍ بسيطة وسريعة، إلى مكانة الشعر والكتابة في لغات المكسيك الأصلية، بدليل "تكرار كلمات دالّة على الكتب والمكتبات والشعر والغناء والنشيد". وتذكر أن الأزتيك أطلقوا على الشعر تعبير "ورْدٍ ونشيد"، ووصفوه بأنه "مرآة الله على الأرض"، واعتبروا الشاعر "وسيطاً بين الناس والكون". وتذكر معلومةً فريدة من نوعها، وهي أنّ لدى هذا الشعب أسطورةٌ متداولة مفادها "أن الطيور هي المبتكر الحقيقي للشعر". هذه اللمحات وأمثالها بالغةُ الأهمية، وكان من المفترض التوسّع فيها وإثراء المقدمة بما هو أهمّ من حكاية المرأة المترجمة، بل واختيار عنوان للمجموعة من تعابيرَ مبدعةٍ كهذه؛ أيْ وضع أساس تاريخيّ لما سنقرأ من قصائد مترجمة، ليس لشعراء من المكسيك، بل لعدد من شعراء بلدان أميركا اللاتينية أيضاً.
اعتبر الأزتيك أن الطيور هي المبتكر الحقيقي للشعر
وحين نبدأ قراءة القصائد، تلفت النظرَ عنايةُ المترجمة بذكر أسماء البلدان الأصلية، وترجمة ما تعنيه أحياناً. فاسم المكسيك الأصلي هو تشتيتلان، واسم الهندوراس هو هونتولها، في حين أن كاراتاجو هو اسم كوستاريكا. أمّا معنى اسم بلدٍ مثل باراغواي فهو "نهر الطيور الملوّنة"، ومعنى اسم الأرجنتين الأصلي هو "نهر الفضة". هذه العناية تُشير، كما نعتقد، إلى أمرين قد لا يكونان من بين مقاصد المترجمة. الأوّل، أن تغيير غزاة أميركا اللاتينية لأسماء هذه البلدان يرمز إلى فعل الاغتصاب الذي تعرضت له، بشراً ومواردَ طبيعيةً. والثاني، أنّه يُلقي ضوءاً على سبب بروز تضاريس هذه الأرض، وثقافتها الأصلية، في شعر كبار شعرائها، تعبيراً عن وعيهم بشرايينها النازفة، بحسب تعبير إدواردو غاليانو ( 1940-2015).
باستعراض أسماء شعراء المختارات وبلدانهم، مع تذكّر التاريخ الطويل نسبياً من الترجمات العربية لأدب هذه البلدان، شعراً ورواية ونقداً، يُحسَب للمترجمة أنها اختارت غالبية شعرائها من جيلٍ شابّ مولود أواخرَ القرن الماضي. أيْ أنها تفتح صفحة جديدة، بعد أن ظلّ الوسط الثقافي العربي يقلّب طويلاً صفحات أجيال أقدم. واحتوت هذه الصفحة الجديدة على شعراء أكثرهم من المكسيك، ثم من تشيلي والأرجنتين وكولومبيا وأوروغواي، فكوستاريكا وهندوراس؛ والإطلالة على شعراء هذين البلدين الأخيرين تحدث لأوّل مرّة، على حدّ علمِنا، في اللغة العربية.
حول طبيعة هذا الشعر واتجاهاته بمختلف تضاريسه، نلاحظ قلّةَ احتفائه بملامح المكان التي تعدّ من مميزات شعر الأجيال الأقدم. في الماضي، كانت قصائد بابلو نيرودا (تشيلي)، مع أنها منفتحة على آفاق أبعد من آفاق بلده، معنيّةً بحمل رائحة تراب تشيلي، ولم تبتعد قصائد خورخي لويس بورخيس (الأرجنتين) عن ألوان وأساطير وسماوات بلده. في شعر غالبية هؤلاء الشبان يطغى التصوير الذهني، وتقلّ ملامح التشكيل الملموس، مع اسثناء شاعرين اثنين، هما دينيس آفيلا من هندوراس، والشاعرة آمبر باست من المكسيك.
الظاهرة الأكثر لفتاً للنظر في شعر بعض هؤلاء الشبان هي تردّد ما يشبه الحنين إلى أصول عربيّة غائمة. مثلاً، يأتي ذكر فلسطين في إحدى قصائد خورخي بالما، من أوروغواي، وهو الأشهر بين شعراء جيله:
"أن تكون على قيد الحياة لايعني أنك حيّ
محمود درويش كان حياً في عمّان ورام الله
لكنّه مات وهو يحلم بالبروة والجليل
حيث كانت طيوره حية أو ميتة".
يتردّد في المختارات حنينٌ إلى أصول عربيّة غائمة
كما ترحل الشاعرة باولا بالبيردة آليير، من كوستاريكا، إلى لبنان في قصيدة تحت عنوان "حرب":
"سيارة تعبر
تبتلّ
تقتحم الأبعاد الحزينة لشرفتي
كلّ طفولة ضد الزنك هي طفولة
ليست بهذا البعد
وها هي الرُّعودُ هنا
تعطي لبنان صورةً أكثر شاعرية".
بالطبع، سيجد القارئ في بعض هذه المختارات أصداءًلما يحفل به تاريخ أميركا اللاتينية من صفحات النضال المرّ ضد الظلم والإهمال والفقر والتعاسة، وصنوف الشقاء ونُظُم الاستبداد والانقلابات التي خلقتها غزواتُ جيوش الاحتكارات الأجنبية، بدءاً من شركة الفواكه المتحدة الأميركية ووصولاً إلى شركات البترول، كما تمثّله خيرَ تمثيل قصائد خورخي بالما:
"بقيتُ
صامتاً ومضروباً
مدفوناً وأنا حيّ
مرجوماً بحجارتي
مطروداً من سمائي
مفترىً عليّ ومغفوراً لي
دون أن أرتكب أيّ ذنب
عانيتُ من البرد تماماً كالملائكة
على الأرض
عانيتُ من أجل أن تكون أو
لا تكون لي أجنحة".
إلّا أن هذه الأصداء ليست بقوة وعنفوان ما كانت تزخر به قصائد الأجيال الأقدم. أو ربما لأن مترجمة هذه المختارات لم تقصد أن يكون عملها شاملاً لأكبر عدد ممكن من الاتجاهات الشعرية في قارّة ثريّة، إلى درجة لا يمكن تخيُّلها، بتنوّعها الثقافي والبشري ومناخاتها الفكريّة التي تتموّج بها.
بطاقة
غدير أبو سنينة صحافية ومترجمة فلسطينية أردنية من مواليد عام 1980. حاصلة على الماجستير في اللغة الإسبانية وآدابها وبكالوريوس في اللغة الفرنسية. هاجرت عام 2004 إلى نيكاراغوا التي تقيم فيها حتى اليوم. ترجمت نصوصاً لمئات الشعراء من أميركا اللاتينية والعالم الهسباني، كما ترجمت نصوصاً لعدّة شعراء عرب إلى الإسبانية. ونالت ككاتبة "جائزة ابن بطوطة" لأدب الرحلة عن كتابها "إخوتي المزيَّنون بالريش" (2016)، وحاضرت حول الثقافة والأدب العربيين والقضية الفلسطينية في ملتقيات وجامعات عديدة في إسبانيا وأميركا اللاتينية.
من إصداراتها في الترجمة إلى العربية: "خان القوافل" - أنطولوجيا شعرية مكسيكية باللغتين العربية والإسبانية (2014)، و"مختارات شعراء عرب من أصول أميركولاتينية" (2017)، و"كتاب الحِرَف الحزينة" لميغيل مالذوناذو (2016)، و"مسرح العالم الكبير" لأوغستو رودريغس (2019)، و"زهرة إلى سان فرانسيسكو دي أسيس" لفرانسيسكو دي أسيس فرناندس (2020)، و"لعنة المالينشه" - مختارات من شعر أميركا اللاتينية (2020). كما ترجمت إلى الإسبانية أعمالاً من بينها: "نشيد المورو" - مختارات لأربعة شعراء عرب (2015)، "طبول الرب" - مختارات للشاعر فخري رطروط (2017).