غيّوم أرتو بوفيه: ثلاث لحظات بين دريدا والشعر

23 فبراير 2022
دريدا في ضاحية ريس أورانجيس، جنوب باريس، 1988 (Getty)
+ الخط -

مع اهتمام جاك دريدا المبكّر بمسألة اللغة، التي انشغل بها في كتبه الثلاثة الأولى، والصادرة جميعاً في عام 1967 ("في عِلم الكتابة"، "الصوت والظاهرة"، "الكتابة والاختلاف")، كان من الطبيعي أن يحضر سؤال الشعر باعتباره محطّة أساسية في كلّ مقاربة فلسفية للغة، وللكلام، وللكتابة.

وإذا كانت هذه الأعمال الأولى قد خَصّصت لمناقشة الشعر صفحاتٍ، أو فصولاً في أفضل تقدير (مثل فصل "إدموند جابس وسؤال الكِتاب" في "الكتابة والاختلاف)، فإنّ مسيرة الفيلسوف الفرنسي ستشهد إصداره العديد من الكتب التي يُقارب فيها الشعر من خلال تجارب بعض الشعراء، مثل "شيبوليت: من أجل بول تسيلان" (1986)، أو "الحملان: الحوار اللانهائي - القصيدة بين لا محدودَيْن" (2003)، الذي يعود فيه أيضاً إلى تسيلان من باب زميله الفيلسوف هانز جورج غادامير، والذي يشهد على اهتمام دريدا، حتى الأشهر الأخيرة قبل رحيله (1930 ــ 2004)، بمسألة الشعر.

عن "منشورات هيرمان" في باريس، صدر حديثاً كتاب "دريدا، القصيدة: عن الشعر بوصفه غير قابل للتفكيك"، للباحث الفرنسي غيّوم أرتو بوفيه، الذي يقدّم قراءةً في قراءة الفيلسوف الفرنسي للشعر، والذي يبدأ بالتذكير بأنه لم يضع "نظريةً" متكاملة حول هذا الفن الكتابي، بل ظلّ يتناوله في أشكال جديدة كلّ مرّة، ما يتوافق مع نظريته التفكيكية التي ترفض حصْر الأشياء والمفاهيم ضمن أقفاص التعريفات.

غلاف

على أن غياب نظرية موضوعةٍ قصداً حول الشعر لا يعني غياب منطق يحكم مقاربة الفيلسوف الفرنسي له، حيث يميّز المؤلّف بين ثلاث لحظات، أو ثلاث مراحل، تطوّر فيها تفكير دريدا حول القصيدة: مرحلة أولى، تتمثّل بنصوص دريدا الأولى، يبدو الشعر فيها قابلاً وطالباً للتفكيك؛ ثم يتحوّل، في مرحلة ثانية، إلى قوّة تفكيكية بحدّ ذاته؛ قبل أن يصبح، في مرحلة ثالثة تتمثّل بنصوص الفيلسوف المتأخّرة، شيئاً أو عالَماً عصيّاً على التفكيك.

يعرض غيّوم أرتو بوفيه هذه التطوّرات في نظرة دريدا بالعودة إلى النصوص والأسماء التي اشتغل عليها، حيث نراه في شبابه يتوقّف نقدياً عند فلاسفة ينظرون إلى الشعر نظرة تقليدية، "قديمة"، مثل جان جاك روسو، تختصره بكونه وزناً أو غناءً خالِصاً سابقاً اللغة نفسها، وهي نظرةٌ تستدعي من الفيلسوف تدخُّلاً لنقاشها وتبيان أساسها الميتافيزيقي.

وفي نصوصٍ لاحقة، سيجد الفيلسوف الفرنسي في الشعر أداةً لتفنيد الميتافيزيقيا قائمة بذاتها، فهو يحتوي، بحسب تعبير المؤلّف، على "طاقة تفكيكية"، الأمر الذي سمح لشعراء مثل مالارمييه بجعل القصيدة وسيلةً للتفكير، في نفسها أوّلاً، وفي تاريخها، وكذلك في أنواع أُخرى من الخطاب، كما هو الحال أيضاً في نظرة هايدغر إلى الشعر.

أمّا "دريدا الأخير"، فقد وصل إلى القول بأن الشعر، أو بعضُه على الأقل، يبقى عصياً على الاختزال إلى موضوعٍ (كما في المرحلة الأولى) أو إلى وسيلة (كما في المرحلة الثانية) للتفكيك، ففي هذا "البعض" من القصائد، كما هو الحال عند الشاعر الفرنسي فرانسيس بونج الذي يدرسه دريدا مطوّلاً، تبقى القصيدة عصيّةً على الذوبان تماماً في الخطاب الفلسفي لأنها تكفّ عن كونها شيئاً تبتكره رغبة الذات لتُصبحَ شيئاً يُمليه العالَم على الشاعر؛ تُصبح القصيدة شيئاً موضوعياً من الأشياء، وتوقيعاً متفرّداً، لا يمكن للخطاب الفلسفي تفتيته أو القول فيه، بل إنه هو الذي يُظهر قابلية الفلسفة والميتافيزيقيا للتفكيك.

المساهمون