فراديس الجهات المختلفة من الحيّ المألوف

19 نوفمبر 2024
مقطع من "جسر المُشاة الياباني" للفنان الفرنسي كلود مونيه
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تتلاعب الأضواء والظلال في المدينة الليلكية بين المنازل والأشجار، مما يخلق مشهداً ساحراً يتغير ليلاً، ويثير تساؤلات حول ثبات الذاكرة وواقعيتها.
- مع حلول الليل، تتحول الحياة في المدينة، حيث تغلق المكاتب وتظهر الحياة الاجتماعية على الشرفات، مما يذكر الكاتب بزمن مختلف ويثير تساؤلات حول مرور الزمن وتأثيره.
- يشعر الكاتب بتناقضات المدينة بين الثقل والخفة، والزحام والهدوء، مما يثير فيه مشاعر الحب والانتماء والحنين لفردوس بعيد.

في مثل هذه الساعة تماماً كان سيخرج إلى المدينة الليلكية التي تُودّع آخر خيوط الضوء وتستقبل نفحة الليل الأُولى. دُكنة الليل تتسرّب ببطء وستفعل فعلها في الأشجار العملاقة المتوزّعة بين البيوت المنفردة، المتقاربة من دون التصاق ينال من أبعادها الواضحة، المُهندَسة بحيث تتلاعب بالفراغ فتطويه وتعجنه وتُشكّله بين أحجارها البيضاء المُصفرَّة وشرفاتها المُطلّة من بين شجر الأوكاليبتوس والزيتون والسرو أو المرتاحة خلف شلالات زهر الويستارية القصير الأجَل.

حفيف تلك الأحياء كان أمراً لا يُمكن الاعتياد عليه، رغم أنّه لا يخرج عن المألوف، لأنّ الاعتياد لا يسود إلّا حين نحفظ الأماكن بتفاصيلها؛ والذاكرة الشابّة مخاتلة، يقولون إنها قويّة لا يغزوها النسيان، ولكنه لم يسمع أحداً من قبل يردّد ما اعتبره دائماً أمراً بديهياً، أنّ الذاكرة الشابّة ذاكرة شبحيّة لا يمكن الوثوق بها. ألم يُقسِم في سرّه يوم الخميس الماضي أنّه، وهو يتمشّى في الأمكنة عينها التي اعتقد أنه يعرفها عن ظهر قلب، خرج إلى شارع عريض يمتدّ طويلاً ثم ينعطف فجأة فيختلّ المكان؛ كلّ بيوته تطلّ على الغروب من زاوية لم يخطر له إمكان وجودها من قبل في هذا الحي بالذات؟ هل يحدث هذا حين نسير في الشوارع نفسها، ولكن بترتيب مختلف، أو حين نقطعها من اتجاهات جديدة، من على الرصيف الآخر مثلاً، من أمام بوابة البيت التي تشبه باحته واحة في الصحراء المصرية؟

أمس فقط عاد أدراجَه عبر شارع الكستناء، أو شارع الشهيد م. ع. كما هو مسجَّل رسمياً، ليتأكّد من أنّ الفيلا (ما غيرها) ذات الطابق الأخير، الزجاجي، ما زالت في مكانها. طيب، إذا كانت في مكانها لمَ لَم تظهر له وهو يمرّ متروّياً صافي الذهن من أمام واجهتها الطحلبية الكثيفة؟ لم يكُن يسمع الموسيقى حينها ليزعم أنه كان شارداً، أو لعلّه دخل إلى الشارع من زقاق مختلف هذه المرّة، من جانب شجرة التوت الشامي التي انفجرت أغصانها الرفيعة مجدّداً بعد قطعها الصيف الماضي؟ لا لم يمرّ من هناك، ولكن الفيلا هكذا، ببساطة، لم تكن موجودة.

أو، على الأقل، لم تكن كذلك ككلّ مرّة.

يهبط الليل إذن ويظهر كوكب الزُّهرة فوق نهاية الشارع وتخرج أول بنات الحي على شرفتها، ثم تتراجع تاركة مكانها شبحاً وزهرة بوقيّة عملاقة. يهبط ويأتي معه مرسومُه اليومي بإغلاق مكاتب الشركات البرجوازية الصغيرة المزروعة بين الأحياء السكنية الوديعة، كلّها احتفظت بلافتات من السبعينيات، ونوافذ خشبية منخفضة، وستائر مخملية بلون القرمز أو النبيذ أو الأخضر الداكن. هل كلّها تعمل حقّاً؟ (يسأل نفسه بلا اكتراث، ويتذكّر دخوله إلى محلّ ملابس من هذا النوع حين كان لا يتجاوز العاشرة) موكيت أخضر ورائحة نظيفة وموسيقى إيطالية ملائمة لصيف حارّ، غنائيّ، يقضيه الناس على الشرفات بين أصص الفلّ وفم السمكة ودخان التبغ وصحون البطيخ البارد. زمن مختلف. أريحية انقرضت. أو أنه هو مَن شاخ وانقضى من مسيرته ما ينبغي أن ينقضي.

ينظر إلى كوكب الزُّهرة، ثم إلى القمر، وإلى عاصفة صغيرة على حجم شجرة الزيتون المقابلة له، على زاوية طريق ضيقة ترتفع وتتلوّى بين مشربيّات حجرية، تنيرها أضواء النيون الناعس المرتجفة، بألوانها المتدرّجة والمتشابهة.

يشمّ عطراً يمرّ سريعاً كالبرق، ويمدّ يده إلى كتفها ليسأل عن شيء يقف بباب ذهنه ويرفض الدخول. ويسأل. ولكنها ليست هنا. هو فقط هنا والمياه إلى منتصف ساقيه، والمدينة تتناوبها تيّارات الثِّقَل والخفّة.

ها هو الزحام أخيراً، تحمله أطياف مئات السيارات. ويشعر بزلزال الأضواء الكهربيّة وفرح الأسواق.
 
يفرح أيضاً مع الجميع، ويحبّهم، واحداً واحداً بأسمائهم، حتى لو لم يعرفها. "المجد للوجود!".

لكنه الآن يفكّر في فردوس الجهة البعيدة من الحي العميق، ويشتهي رائحة النبات في العتمة.

ويلتفت...


شاعر وكاتب سوري مقيم في السويد

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون