استمع إلى الملخص
- يسلط المهرجان الضوء على تجارب فنية رائدة في قطر والعالم العربي، بمشاركة فنانين مثل جاسم زيني ووفاء الحمد، مما يعكس تنوع وثراء المشهد الفني العربي.
- "بيت يوسف أحمد" يُعتبر أيقونة المهرجان، حيث يعرض أعمال الفنان القطري يوسف أحمد ويعكس العمارة التقليدية في الخليج، مضيفاً بعداً تاريخياً وثقافياً للمهرجان.
اعلى مساحة مقرّ "درب الساعي" الدائم في منطقة أُمّ صلال شمالي الدوحة، أقامت وزارة الثقافة القطرية للمرّة الأُولى مهرجاناً للفنون سمّته "فريج الفن"، وتجسّدت بالفعل كلمة "الفريج" بمعنى "الحيّ"، لتكون العروض البصرية على مساحة واسعة من المعارض الفردية والجماعية والورش في خمسة حقول: الرسم، والتصميم، والطباعة، والخزف، والنحت.
هذه الدورة الأُولى المستمرّة حتى بعد السادس من الشهر الجاري، تشهد كذلك إقامة استوديوهات فنّية وبازاراً وندوات وبودكاست تفاعلياً وعروضاً موسيقية وسينمائية.
وبين فريجين شمالي وجنوبي، تقاسمت المشاركات مساحة مشغولة بمزيج من التأمّل البصري والحسّ الكرنفالي مع الموسيقى الحية الموزّعة في عدّة مناطق للتشيللو والعود والناي، وما بين الحوانيت وورشات العمل للزخرفة والخطّ والتصوير والخزف وغيرها، إلى الدخول في المعارض؛ حيث كلُّ تخصُّص بصري يضمّ معارض فردية وأُخرى جماعية.
يستعيد تجارب رائدة في التشكيل القطري؛ مثل جاسم زيني
وفي كلّ منحنى أو درب أو جدار، تتمثّل بالضبط تفاصيل الفريج القديم، في المكان الذي يحمل في الأصل اسم "درب الساعي"؛ الاسم التراثي القديم، وهو المقرّ الدائم في أُم صلال لمناسبات ثقافية خارج مركزية العاصمة، وعلى بُعد عشرين كيلومتراً منها.
المعرض العام كان من أبرز ركائز المهرجان وفيه ستّة فنّانين، انضوت أعمالهم تحت عنوان "إضاءات عربية"، وقد اختار الإطلالة على بعض من مسارات فنّية لراحلين وآخرين يواصلون الطريق، ليكون الهدف الذي يبتغيه هو أنّ الفنون قادرة بنسغها الإبداعي على عبور الزمان، وأن يحتضنها الناس جيلاً وراء جيل.
والإضاءات حملت عنواناً فرعياً هو "إطلالة على ماضٍ مستمرّ". وهذه ما نعاينه ونحن نرى لوحات ومنحوتات تتوسّطها أعمال الفنّان القطري الراحل جاسم زيني (1942 - 2012) وهو رائد الحركة التشكيلية في قطر بلا منازع. وعكَس فنّه منذ مطلع السبعينيات تفاصيل المجتمع القطري، بعد أن تأسّس وعيه الفنّي في العراق، خلال دراسته الفنون، وتأثّره بالمشهد الفنّي الذي كان مزدهراً في بغداد خلال الستينيات من القرن العشرين.
كما أحيت هذه اللحظة التشكيلية مسيرةَ الفنّانة القطرية الراحلة وفاء الحمد (1964 - 2012)، عبر جملة من أعمالها التي التزمت طوال تجربتها بالتجريد الهندسي. وحضرت، أيضاً، تجربة الفنّان القطري علي حسن؛ صاحب المسار المعروف في الحروفيات التشكيلية، متمثّلةً في سجّادة بمقاس 260 سنتمتراً في 160 سنتمتراً عليها زخرفة بالأسود والأبيض، إضافة إلى عمل نحتي من الستانلس سيتل ضمن مجموعته المعروفة بـ"حصان الصحراء"، والتي بدأها قبل سنوات، وعرض واحداً منها في "مطار حمد الدولي".
هذا العالم اللانهائي لتشكيلات الخطّ يضعنا كذلك أمام ما يجترحه الفنّان العراقي صباح الأربيلي من أعمال تضمّ الخطّ العربي الكلاسيكي والحديث. وإذا ما ذهبنا إلى السرد البصري، أي الحكي بالريشة، فسنجد في عالم الفنّان الأردني حسان مناصرة نموذجاً، وقد شارك مناصرة ببعض من الأعمال الفنّية من ملحمة غلغامش وبعض من الأعمال من فترة الحجْر الصحّي خلال جائحة كورونا.
أما الفنّان العراقي أحمد البحراني، المعروف في قطر بمشاركاته الواسعة منذ عقدين من الزمن في مجال النحت، فإنّ انشغالاته الأخيرة احتوت تنويعاً بين خامات متعدّدة، تحت عنوان "الطيور"، جامعاً بين النحت البرونزي الذي يظهر في خمسة أعمال، وعشرة أعمال من طباعة الشاشة الحريرية.
يُفضي المعرض العامّ إلى مساحة تحتوي على أجنحة مخصّصة للغاليريهات التي تمتلك أو تقترض أعمالاً فنّية لفنّانين من مختلف بلدان العالم العربي، مثل الفنّانَين المصري عادل السيوي وعلياء الجريدي، والقطرية هنادي الدرويش، والعراقيِّين إسماعيل عزام وسالم مذكور وسيروان باران والعماني سالم السلامي. كما تصطفّ غرف كثيرة على كلّ فريج تضطرّ إلى الاعتماد على ذاكرتك حتى تحفظ الأزقّة التي تُفضي إلى بعضها. تدخل إلى معرض حسن الملا وهو يواصل غنائيته اللونية في رسم البيئة التقليدية في قطر، ثم تنتقل إلى الغرافيك مع عبد الرحمن المطاوعة الذي مثّل علامة واضحة منذ عقدين على الأقل في استخراج أكبر قدر من الفنّ من خلال الطباعة.
وكان أيقونة المهرجان البيت الذي يسأل عنه الزوّار أو تدلّهم عليه اللوحات الإرشادية واسمه "بيت يوسف أحمد"، وقد اختارت هذه الدورة من "فريج الفنّ" واحداً من الأسماء الأساسية في المشهد الفنّي هنا. يكفي أن نعرف أنّ أوّل معرض تشكيلي مستقلّ في تاريخ قطر كان باسمه، وما زال حتى اليوم وهو على عتبة السبعين من عمره يواصل الإنتاج بكثرة ويغامر في تجريب الخامات. البيت الشعبي المبني على طراز العمارة التقليدية في الخليج، ذو غرف يتوسّطها الحوش، وحين تقطع الدرب الذي يُسمّى هنا "السكّة" تدخل إلى المعرض وهو يجمّل كلّ ما في ذاكرة الفنّان من "سكيك" (جمع سكة) عرفها منذ ولادته عام 1955، قبل أن تصبح طيفاً بعيداً غير موجود على الأغلب بسبب التحوّلات العمرانية الكبرى.
تتمثّل تفاصيل الفريج القديم في كلّ منحنى أو درب أو جدار
وأكثر ما يلفت النظر حرص الفنّان على استرجاع الصورة المكانية عن الصباح أو العصر حتى يضمن حضور الظلّ والنور، منوّعاً بين تفاصيل مكان واحد أو صورة بانورامية من بعد يظهر فيها جانب كبير من البرّ العامر بالبيوت إلى جوار البحر، خصوصاً في منطقته الأثيرة التي وُلد فيها "الجسرة"، وقد اشتهرت طوال تاريخ قطر بتأسيسها أبرز ناد ثقافي عُرف على مستوى الوطن العربي.
وبعد المرور على جناح من أرشيف الفنّان في المجلّات والجرائد العربية والصور الفوتوغرافية، يتجمّع جمهور كبير على وجه الخصوص أمام اللوحة التي يمتدّ طولها إلى عشرة أمتار، تشتمل على محلّات تجارية من زمن الخمسينيات والستينيات، فيظنّها الناس امتداداً لتجربة معرض "محلّات" قبل عدّة سنوات. فهذا "مقهى الأمّة العربية"، وهذا محلّ "حلّاق الشباب العربي"، وهذا محلّ "خضروات الأحرار"، وهذا "التيار العربي للأدوات المنزلية"، وهذا "مخزن التضامن"، وقد كانت بالفعل في نهاية خمسينيات القرن الماضي ومع إعلان الوحدة بين سورية ومصر بقّالة في الدوحة ما زالت حتى اليوم في سوق واقف باسم "بقالة الجمهورية العربية المتحدة".
بيد أنّ يوسف أحمد يخبرنا، في حديث إلى "العربي الجديد"، أنّ اللوحة الكبيرة التي نراها هي من خياله، إلّا أنّه رسمها بوحي من تلك الأجواء العارمة في تلك الحقبة ذات الحمولة العروبية، حين بدأت تدخل معجمنا أسماء لم تكن موجودة من قبل، مثل اسم "جمال" نسبة إلى جمال عبد الناصر، كما يضيف، أو أسماء الأماكن المستلهمة من معاني الوحدة، والتضامن، والتحرير، والعروبة.
ومنذ البداية، أعلنت وزارة الثقافة القطرية أنّ التجربة الأُولى "فريج الفن" تسعى لجعله وجهة رئيسـية للفنّ المعاصر، تخلق منصّة تفاعلية بين الفنّانين من داخل قطر وخارجها، بما يجعله مستقبلاً على قائمة المهرجانات الدولية.