المَعصِية
بما أنّ الله تعالى يهبُنا، دون توقّف، حريّة معصيته، فنحن نعتبر الإله بمثابة أبينا. فبمجرّد أن استقرّ آدمُ وحوّاء في النّعيم الأرضيّ، بادرا إلى أكل التفّاحة وبذْرها، حتى يتركا بسرعةٍ، محلّ الشَّهوات هذا، فرارًا منه نحو آفاق التاريخ الغامضة. وبمجرّد الوصول إلى اللغة، شرع هذا الإنسان الصّغير في قول: لا. وكلُّ أولئك الذين يرفعونها، من بينكم، كانوا قد تعلّموها بالرغم عَنهم. وعلى عكس ما يُقال أحيانًا، تحلُّ هذه المعصية السّعيدة الكثيرَ من المشاكل. فبعد أن رأينا حماقاتٍ سوداء وتجاربَ لا تصلح إلا للقليل، ثمة جيلٌ عادي يعرقل التاريخ، بالشكل الذي لا نرى فيه، في وقتٍ ما، كيف الخروج من هذا المأزق. فقط بعض الأطفال الساخرين يحلّون الوضع عندما يأخذون الأشياء بشكلٍ مختلف. ومن بين الحيوانات التي لا تَعصي إلّا نادرًا، ما يُسمّى: "الآليات الجينيَّة"، التي تتبع غريزةً مُبرمجة، منذ بدء النّوع: ولهذا السبب، ليس لها من تاريخ سوى التطوّر. نحن نتحوّل، نتقدّم ونتراجع. نحن نبتكر المستقبلَ، لأنّنا عندما تختلّ برمجتنا، نَعصي. أهذا إذن هو مُحرّك التاريخ؟
المشاكسة
كلُّ هذه المقدمة المُملَّة، أمشاجٌ من علم اللاهوت ومن التّاريخ الطبيعيّ، فقط من أجل تمرير صعوبة تخنق بداية مقالتي. نعم. عندما فارقتُ مَعهدي القديمَ، منذ ما يزيد على نصف قرنٍ، تركتُ فيه معصيةً أودُّ الاعتراف بها. فعندما وصلتُ إلى سنٍّ متقدمَةٍ، سَأتدارك هذَا التأخّر. فَهذا يفضي إلى عواقبَ أخفّ. ففي بعض الطوائف المسيحيّة، يوجد تقليد الاعتراف الأخويّ: في أوقاتٍ منتظمةٍ، المنفردون يَعترفون أمام المجموعة بعدولهم عن الصّراط السّوي. فهذا، إذن، اعترافي المُتأخر على الملأ: فقد عَصيتُ، ولم أنقطع عن التصرّف بمثابة مُشاكسٍ قويٍّ، يخشاه كلُّ أساتذته. أرجوكم الإنصاتَ، منذ افتتاح هذا الكتاب، هذا اعترافُ أبٍ-كبيرٍ.
فأنا أعترف، بكل لذّة، بمعارك وسائد، التي تَناثَر، في بُرهةٍ وجيزةٍ، ريشُها في كلّ الاتجاهات، مغَطّية معها فضاء المَبيت الكلّي، نراها قريبةً، تكاد تكون منعدمةً، وتثير فينا ضحكًا، تؤلم بواطِنَنَا بِرُضوضٍ، ونتذكّرها، على الأقلّ، لمدَّةِ أسبوعٍ. نعم كنت "مَسجونَ الفَصْل"، كما كنّا نقولُ وقتَها، كلَّ يوم أحدٍ. وحتى يكونَ التقديرُ صائبًا، أغلبَ أيّام الخميس أيضًا. فقد طُردتُ، لعدةٍ أسابيع، سنة الباكالوريا، ولم يتداركوني، في آخر لحظة، إلا على الأمل الكاذب، بتحسين إحصائيّات المعهد الثانويّ في نِسَب النّجاح.
لم أتعلم المشاكسة. صدّقوني، لقد تلقيْتها في حمضي النووي
سأعترف، فضلاً عن ذلك، بأنني نَظمت مرّةً أخرى، في المَبيت مسامراتٍ لا تُنسى، حيث كان كلُّ واحدٍ منَّا، رغم أنّ الضّوءَ مُنطفئٌ، يقلّد أصواتَ الدّيك والخنزير والبقرة والفَرس والبطّة والإوزّة، دون أن ننسى أصوات المزارعين والخَمَّاسة، الذين بصوتهم الثخين، يَأمرونَ، في لهجاتِهم المحليّة، الدجاجاتِ بالدخول إلى الساحة الوسطى، حتى تَبيض. أعترف بهذا، بكلِّ غُرور. فقد كنتُ أديرُ، بتألّقٍ، توزيع الأصوات، شديدة الحساسية، لطير غينيا والدّيك الرومي. رجاءً، لا تسألوني عن شيءٍ.
فأنا، إلى الآن، لا أزال قادرًا على محاكاة أصواتِها. ليسَ ثمّة من عَرض موسيقيٍّ، مما نسمّيه: "الموسيقى الكلاسيكية"، قد وَهَبني، طيلةَ حَياتي، مثل هذه اللذات الكبرى، بل مثل هذه السمفونية: محاكاة أصوات الحيوان بكل دقَّةٍ. ففي ذلك الحين، كان "الـمُقيمون" لا يَزالون يمتلكون تَجربة الحياة في الرّيف: كما لو كنّا نعيش فيه. وحتى نقوّي العرضَ، كان المزارِعُ يَختار، في جَلَبَةٍ، الخنزيرَ الصغيرَ الذي سيقتله، والذي كان يُسرع بشدّة مطلقًا، أثناءَ سَعيه إلى الفرار، صيحات حادةٍ وموجعة، مثل تلك التي نستَمع إليها في المذابح. ولم يكن القيّم المسكين يَستطيع شيئًا. بمجرّد ما يضيء القاعة، يَبدو هؤلاء المشاغبون صامتينَ وأبرياءَ، يغطّون في نَومٍ عميقٍ، أو على الأرجح، يَتَظاهرون بذلك. فيُعيد إطفاءَ الضّوء، وسريعًا ما تعود القاعة إلى الصهيل، والثغاء والهديل والنَّقنقَة. مرافقة هذه الجوقة، يُهيمن العزفُ الفرديُّ لصياح الديكة. أفضل من ذلكَ، في تلك الأزمان الغابرة، ثمة نَظافة مُريبة تشيع في أرجاء روائح رَوث الخيول، وتؤكد نَفحاتها الثّقيلة أنّنا في "وضع تمام".
أعترفُ أيضًا أنني اضطهَدتُ قَيِّم المَبيت. فقد كان ينام في ما يُشبهُ البيتَ المغلق، من بين تسعين سريرًا، ملتصقًا بعضُها ببعض، خمسةَ عشر منها لمعهد آجان وخمسون لمعهد مونتاني، في مدينة بوردو، ومائة للويس-الكبير. وكان تحت قيادتي ثمانونَ صيّادًا، يَخرجون، في صمتٍ من تَحتِ مَلاحفهم السَّميكة، في منتصف الليل بالضبط. بِأيديهم وسائدُ، أرجلُهم حافيةٌ، تسير على الأرضيّة، دون أدنى ضَجيج، لنلتقي، مثل اللصوص، حول الجزيرة حيث تُوجد السلطة. هوب! وكلُّ الوسائد تَطير، في الهواء، لتسقط وَسَطَ هذه الجزيرة، موقظةً بذلك القيّم الذي كان يُدفن تحتَ جبلٍ كَثيف، ولكنه خفيفٍ، من الوسائد. ريثما يَنهض، وقد عبئ بالريش، ساعيًا للتخلص منه، يقوم وقد فرّ كلّ واحدٍ منّا وعاد إلى عُشّه لينامَ بِعمْقٍ إلهيّ، لم يَرنَا أحد. آه، هؤلاء الإرهابيّون!
وهكذا، كانت هذه المداعبة أولى تَجاربي الاجتماعيّة الوحيدة. لم يعلّمني أحدٌ إيّاها، دون شكّ. صدّقوني، لقد تلقيْتها في حمضي النووي، الذي تألّف من والديَّ، أو بطريقة غير مباشرة، من الحِكمة الإلهيّة التي تَحرُسنا. وكان أيضًا طُموحي السياسي الوحيد والحقيقيّ، مثل عَقيدٍ على جبهة القتال أو عمدة قريةٍ، يلفُّ الشَالَ على عُنقه. عَرفتُ كيف أدير جَماعاتٍ من الناس، في صفوفٍ متراصّة، في مشروع دقيق، دون غَضبٍ ولا إساءة، دائمًا من أجل الضَّحك. فإذا رأينا السياسةَ من هذه الزاوية، تبدو لَذيذةً.
أمراء المُداعَبة
ولكنني لم أكنْ، وأعترفُ بهذا مُجدّدًا، سوى صائغٍ صغير في فنّ الـمُداعَبَة. فلقد عرفتُ منه، فيما بعد، من يَتقنها حقًّا، كَالملوك. فعندما صرتُ أستاذًا، في دار المعلمين العُليا، كان يَحدث أن أذهبَ، في نهاية الدرس، لتحيّة المدير الذي كانت لي معه علاقات مهنيَّةٌ وودّيةٌ. وذاتَ يوم، بعد الظهر، نَسيتُ في أيّ شهر وأيّة سنةٍ، كان باب مكتبه مُشرعًا، فاقتربتُ. ولمحتُه عن بُعدٍ بصدد التحدّث عبر الهاتف. أشار لي بيده الطليقة: أنْ ادْخُل. ثم طلبَ منّي أن أضع سمّاعَة الهاتف عَلى أذْني. كان صوتَ حادي حَربٍ، صَوتَ بومبيدو، حين كان الوزير الأول للجنرال شارل ديغول، يَنهال بالشتائم على هيبوليت المسكين.
على عكس ما يُقال، تحلُّ المعصيةُ الكثيرَ من المشاكل
هذا اسم المدير، الذي كان زميلَه على مقاعد الدراسة، في الدَّفعة نفسها. أمَرَه رئيس الحكومة أن يأتيَ في الحال لِيَستعيدَ زَرافَتَه من قصر الإليزيه. أيَّةُ زَرَافَة؟ لمْ أفهم شيئًا. يكاد هيبوليت يختنق ضَحكًا. يُجيب على وابل غضب الآخر أنَّ الـمَأفونَ يُمكن أن يَغرِسه في ... عَلَّقَ الهاتفَ بِعُنفٍ. ثم قصَّ على المُدير القِصّة التالية:
بُعيدَ نهاية الاستعمار، أصبحَ العَديدُ من أعيان الدول الأفريقية، الذين كانوا سيناتوراتٍ ونوابًا، رُؤساء في أنظمتهم. وقاموا، أحدُهم تلو الآخر، بزياراتٍ رسميّة إلى فَرنسا، باعتِبارهم رؤساءَ دولٍ. وقبيل إحدى هذه الزيارات، تلك التي قام بها هوفويت بواني ، فيما أظنُّ، ثمة خِرّيجان من دار المعلمين، متخصصان في التاريخ الطبيعي، فَهما يعرفان المكان جيدًا، ولذلك قاما بإسكار حرّاس "حديقة النبات"، وسرقا من هؤلاء الاختصاصيين، زَرافةً ذَكرًا، ثم وضعاها في شاحنة مفتوحة السّقف.
وبِعنقها الطويل وقُرونِها الصّغيرة، كانت الدابّة المسكينة سجينةً، تتجاوزُ، بشكل عالٍ جدًّا، فتحةَ الشاحنة، وتُرى عن بُعدٍ. وعندما أقبلَ الموكب الرئاسيُّ من مطار أورلي، عابرًا من رصيف سان-برنار، وبحركةٍ رشيقة، مع أنها خطيرة، ثلاث أو أربع دوراتٍ سريعة من المقود، واثنتان من مُحرّك السرعة، التحقَ الطاقم كله، الزرافة، الطّالبان، والسيارة، بالـمَوكَب الرئاسيّ.
وها هم جميعًا خلف مَوكب السيّارات السوداء: الشرطة في المقدّمة، الوزراء في الخلف، والتزمير: بن-بون، بن –بون. يحاذون جميعًا نهر السان ويعبرون جسرَ ألكسندر الثالث، ثم توقفوا أمام قصر الإليزيه، حيث، وبنبرةٍ هادئة، أعلنوا لرئيس التشريفات أنهم يحملون هَديّة الضّيف الكريم لفرنسا الخالدة. أسرَعت التشريفاتُ إلى إخبار الجنرال، والذي وبفضل هذه الكلمات التي يمتلك وَحده سِرَّها، يَشكر، بكلِّ نُبلٍ، هوفويت بواني، المتعجّب بدوره، والذي رأى للتَوّ أنه قام بهذه البادرة، لكن دونَ عِلمٍ منه. والأدهى من ذلك، أنّ الزَّرافات لا توجد في بَلده الجميل. ولكنْ، انحَنَى الجميع، واحتَرم في صمتٍ، كالعادة.
وبعد ذلكَ، وفوق دَرجات القَصر، دخلتِ الزيوتُ إلى البهو، حيث تَوالت الخِطابات وفاضت الشمبانيا. وخلال هذا الوقت، كانت الزرافة تتضوّر جوعًا (هل تَصْهل الزّرافات؟ لا أدري). تتبوّل في كل مكانٍ، وتأتي بقية الفَظائع. ثم تتحَرّك بعنفٍ، تَكسر النوافذ الزجاجية، وتضع، في موضع الخطر، التوازنَ الهشَّ للكراسي المحمولة، وتحطّم الطاولة الحديديّة، وتهدد بالفرار حتى تجتاحَ، مَن يَدري، قَصر الإيليزيه. وربما ستكسر فيه آنية البورسلين الفاخِرَة. وبإيجازٍ، حَملتْ لَحظة دُعابة ضخمة، ضمن ساحة الشرف، والتي كانت في العَادة، تَعيشُ سلامًا سياديًا.
ولـمّا أصمَّ الضجيجُ آذانَ الجنرال، أمرَ الوزيرَ الأوّل أن يُعيد النّظام إلى هذه الفَوضى. يَخرج بومبيدو ويَجد نفسه، وَجهًا لوجهٍ، مع زميليّ الشابَيْن، ضاحكيْن مُنشرحيْن، حيثُ لم يكن مَلمحهما يومئ البَتّة بهذا المَقلب. فضلاً عن ذلك، كانا يَسخَران من الأنف المتجعد جدًّا لصديقهما القديم، والذي أصبح، مع الأسف، وزيرًا. وعندما صرّحا بهُويتهما للشرطة التي قَدِمت، قائليْن إنهما يُدْعَيان بومبيدون والآخر ماتيو.
- سأرمي بِهما في السّجن، صاحَ الوزير الأول في الهاتف.
- أنا موافق، قال المدير.
وعندما وضع السمّاعة، تساءلنا، هيبولت وأنا: أليس من الأجدر أن نطالبَ بوسام جوقة الشرف من بومبيدو لصالح أصدقائنا الظرفاء؟ طالبتُ بذلك المديرَ. ولطالما كنت مقتنعًا أنه، وبعد زوال فورة غضب الوزير، سَيَهبنا، وبكلّ صفاء قلبه، هذا الوسامَ. فكَم من واحدٍ حازَ هذا الوسام بأقلّ من هذا.
لكلِّ واحدٍ منا عيوبُه. ولكنني أعترفُ، في النهاية، أننا لم نَشعر معًا، بكل حدّة ذلك اليوم، بمثل الشعور القبيح بالغَيرة. ولكننا عوّضناه سريعًا بدوائِهِ الوحيد الناجع: الإعجاب. ما أفضل من أن نَرفعَ المقلبَ إلى مَعالي الإليزيه؟ أحسسنا أنّ رَهافة هذه العبقريّة تجاوزتْنا. أنْ ننجح في إدخال زرافةٍ تَصْهَل (ولكن، رجاءً، هل من أحدٍ يَقول لي إن كانت الزرافات تَصهل أم لا؟) بجوار قَاعة مجلس الوزراء؟ وبالتأكيد، لم أكن سوى فردٍ من السابلة. وجدت نفسي، مشدوهاً، فاغرَ الفَم، مُتَعَجّبًا، منبهرًا أمام خلفاء لا يُقَلَّدون. تجاوز التلاميذ أساتذتهم. وهكذا كان ساليري يَنظُر إلى موزار.
النكتة
بعد أن رُبّيتْ في مَعاقل المعرفة العالية، تَحتفي أجيالٌ بأسرها بِالمَقلب، بقَدر كبير من الدقة والتفاني، لدَرجة أنه، وفي لَيلةٍ جميلةٍ، من ليالي الخريف، بعيد استعادة الدروس، إثر عطلة الصيف، سَرق بعض التلاميذ الـمَرحين، من مبنًى على وَشك الفراغ منه، لافتةً طويلة كتب عليها بأحرفٍ كبيرة: "افتتاح النُكتَة"، وذلكَ لتعليقها على مدخل المدرسة.
الأساتذة، العُمداء والمديرون وكلّ هؤلاء العِلية، يمرّون، طيلة أسابيع عديدة، تحت هذه اللافتة اللذيذة، منتشينَ أرْيَحيَّةً وحبورًا. ولم يَسحبوها من على بوّابة الـمدخل، إلاّ بعد أن انْطفأت الضحكاتُ.
وغنيٌّ عن القول إنّ أغلبية الكتّاب الكبار والعلماء والأعلام وحائزي جائزة نوبل الفرنسيين، قد تخطوا، عدة مرّات هذا المدخل، في فترة مُراهقتهم.
* ترجمة من الفرنسية: نجم الدين خلف الله، والمقطع مقتطف من كتاب صدر مؤخراً عن منشورات "درج"