في المحاورة ثمّة حيوية الكلام ولهجة الحياة، كما يقول ستيفنسون؛ لأن الكلام الشفوي هو الأصل، تتجلّى فيه حرارة اللحظة، لذلك اختار سقراط الكلام ورفض الكتابة؛ كان يقول: لا أريد أن أضع الحكمة الحيّة فوق جلود البقر الميت. هكذا لم يترك سقراط كتاباً؛ ولو لم يدوّن أفلاطون حواراته لضاعت فلسفة سقراط وإلى الأبد.
والمحاورة تختلف عن فنّ الحوار الصحافي الذي ظهر أوّل ما ظهر في القرن التاسع عشر، وإن اتّفقا في الشكل، فقد اختلفا في المعنى والقصد، إذ ترقى كتب المحاورة إلى النوع الأدبي متعدّد المضامين.
محاورة "المائدة"، حيث الفلسفة ترقى إلى الشعر؛ أحاديث إيكرمان مع غوته، ذاك الكتاب الذي يصنَّف بين الأعمال الكلاسيكية في الأدب الألماني، والذي يغطّي حياة وأفكار عصر كان متوسّطاً بين العالم الكلاسيكي والعالم الحديث، عصر شكّل تباشير حداثة الغرب. حوارات الفيلسوف الأميركي ألفرد نورث وايتهد. ما أزال أذكر ــ بكثير من المتعة ــ كتاب مارغريت يورسنار: "العيون المفتوحة"، أذكر حيوية الأسئلة التي جعلتنا نوغل في عوالم هذه الكاتبة. ننتقل من رؤاها حول الكتابة إلى التاريخ، إلى الشعر والترجمة والأخلاق، إلى سيكولوجية الأعماق؛ فالروائي الحقيقي وحده مَن يلج بحدوسه تلك العوالم الباطنية الغامضة للشخوص الروائية التي تقوم على مفارقة عجيبة، فهي خيالية وفي الآن أكثر حقيقية من الشخوص الواقعية.
يشبه المحاوِر المحلّل النفسي بإضاءته على جوانب خفيّة في شخصيتنا
لا بدّ أيضاً من ذكر كتاب هنري ميلر "حوارات الباسيفيك باليساد"، الذي نقلتُه إلى العربية، حيث يتحوّل الحوار إلى نوع من السيرة الذاتية، وهي عبقرية ميلر الذي يحوّل كلّ شيء إلى سيرة ذاتية، حتى ولو كان الحديث عن القمر. كتب ميلر حوالي خمسين نصّاً ليقول بعضاً من حيواته التي عاشها ومن تلك المتخيّلة.
الحوار نوع أدبي منسيّ ومهمّش لدينا. وباستثناء بعض العناوين والكتب الرائعة في هذا المجال ــ مثل حوارات رجاء النقّاش الشاملة مع نجيب محفوظ، والتي ترقى لقمَم عالية في هذا الفن ــ فإننا لا نكاد نظفر بشيء ذي بال، رغم ظهور المحاورات منذ فجر التفكير الفلسفي في بلاد اليونان.
دور نشر كثيرة تُفرد اليوم سلاسل بأكملها للحوارات: مثلاً، سلسلة "الكلمات الحيّة" الصادرة عن دار "مكتبة الفنون" في لوزان بسويسرا.
أحبُّ في الحوارات حيوية اللحظة. في الحوار يقوم الآخر/ السائل بدور المرآة العاكسة؛ يأتي السؤال ليصدّ المحاوَر عن الاستغراق في حواره الداخلي، فالمحاوِر يتحكّم إلى حدّ ما في المواضيع من خلال الأسئلة التي يطرحها، وهنا يصير دوره شبيهاً أحياناً بدور المحلّل النفسي: قد يدفع الشخصية التي يحاورها في اتجاهات معيّنة، قد يضيء لها جوانب من نفسها ظلّت مخفية عنها حتى الآن. والمفارقة، هنا، هي أنّ عنصراً خارجياً قد يقودنا، دون قصد، إلى أماكن سحيقة من أنفسنا، ويُرسل شعاعاً رفيعاً داخل ليلنا الأبدي.
* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام