يحتاج المُشتغلون على الضّاد إلى إجراء حَصيلة معرفيّة - نقديّة تتناول ما أنجزه اللغويّون العرب وغير العرب من المتخصّصين في الألسنيّة العربيّة، مُعجمًا وتركيبًا وأسلوبًا منذ النصف الأول للقرن العشرين حتى يوم الناس هذا، من أجل استخلاص أهمّ المحاور العميقة التي حَكمت هذه الدراسات وأعطتها وِجهتَها طيلة العقود الماضية، وإجلاء النّظام المَعرفيّ (paradigme) الذي بَنَت عليه نظريّاتها ومناهجَها.
ذلك أنَّ الأبحاث الألسنيّة العربية الرّاهنة تتراوح، عمومًا، بين استنطاق المدوّنة التراثيّة واستنباط ما تَضمَّنَته من مَفاهيمَ على ضوء المقولات التي نَضجت في علوم اللسان الغربيّة، وبين تبْيئَة هذه الأخيرة بعد ترجمتها وتطبيقها على المدوّنات العربيّة، سواءً أكانت قَديمة أم حَديثة.
فعلى سبيل المقال، انصبَّ التوصيف المعجميّ على ما تحقّق في مجال المعجميّة العربيّة ــ منذ ابتداء نشر القواميس المزدوجة ووحيدة اللغة التي تهمّ الضاد المعاصرة، أو إعادة إصدار المدوّنات القديمة، وما تبع هذه الصناعة من تفكيرٍ في بَنْيَنَة المفردات وتحليل العلاقات المنعقدة بينها ــ ضمن مجهودٍ وصفيٍّ ونقديّ للتحوّلات التي طرأت على معاني المفردات العربيّة، وما يتّصل بها من مباحث فرعيّة كالاقتراض والنّحت والترجمة وسائر آليات التوليد والتقادم.
ويُعَدّ درس التراث المعجميّ من أثرى مجالات التوصيف اللسانيّ بالنظَر إلى أهميّة الكَلِم وملابسته للخطاب العربيّ في تعقّبه للحياة اليوميّة، ومساعي مُستخدميه إلى الإحاطة بما طَرَأ عليه من متغيّرات متسارعة. ولذلك كان هذا التوصيف منصبًّا على آليات الاستحداث والاقتراض والتحوّل، بالإضافة إلى التخصّص الاصطلاحي الذي يضفي على المفردات معانيَ فنّية في مختلف العلوم والفنون المستجدّة، ثم إلى إنشاء المعاجم التاريخيّة وإحياء التراث المعجمي لإعادة ترتيبه حسب المَبادئ الحديثة. وطبيعيّ أن يتأثّر التوصيف المعجمي بما طرأ على علوم صناعة المعجم الغربيّة، وخاصّة الفرنسيّة والإنكليزيّة، من نضجٍ وقَطائع، فَخِيضَ في قضاياه على هَديٍ من النظريات التي ظهرت في ديار الغرب. إلّا أنَّ خَطرَ الإسقاط ربما كان فيها أقلّ بسبب اشتغال الأساتذة العرب والمُستعربِين مباشرةً على هذه المسائل، وتأليفهم لأبحاث جادّة، منذ بداية القرن الماضي، دون مرور بوسَائط ثالثة.
دراسات كثيرة تُكرّر ما قيل في الجدالات اللغوية منذ قرون
ومن أهمّ الوجوه التمثيليّة التي جسّدت هذا الدرس، الباحثُ إبراهيم بن مراد، من خلال "جمعيّة المعجميّة" التونسيّة وأعمالها من إصدارات وندواتٍ امتدّت على أربعة عقود، إلى جانب الباحث محمد رشاد الحمزاوي. وكانت المقاربات في ذات الآن تاريخيّة وبنيويّة، تؤكّد جميعُها الرغبة في الوصف العلميّ للعربية ورصد تحوّلاتها بعيدًا عن المقاربة الدينية والتقديسية وقطعًا مع نظرات التّمجيد، التي غالبًا ما كانت تضع الضاد في مرتبة أعلى من اللغات الأخرى، في انحسارٍ، ولو تدريجيّ، للمعياريّة وغلبة للتحليل الوضعيّ لظواهر الدلالة وقضاياها المُعضلة.
وبناءً عليه، نحتاج اليوم إلى خارطة بَحثٍ مستقبليّة، تحدّد أهمّ الاتجاهات التي ينبغي أن تسير وفقها الدّراسات تجنبًا للتكرار الذي يَستهلك الطّاقات ويَهدر نَفيس الأوقات والعقول، ووضعًا للأبحاث على سكّة النموذج المعرفي الغالب. إذ كثيرًا ما نرى استعادةً لصراعات الماضي الفكريّة وتحليلاتٍ لا تأخذ البتّة بعين الاعتبار المُنجزات الحاصلة في علوم اللسان الحديثة، وما اعتمدته من نتائج إدراكيّة في اعتبار اللغة نسقًا من العلامات وعلاقاتها بالمراجع والتصوّرات العرفانيّة ووظائفها التداوليّة...، فَظلّت بمعزل عن هذه النتائج الكونيّة.
وعلى هذه الخارطة أن تحدّد المنهجَ وطرقَ البحث والتأصيل، حيث ما تزال الأبحاث العربيّة تتوسّل بمسالك القدماء، غير عابئة بتجويد منظورات التحليل ووسائله التي حقّقت هي الأخرى شأوًا بعيدًا. ذلك أنَّ بعض الأبحاث العربيّة يُلقَى اليومَ في النّدوات والمؤتَمرات دون أن يعطي بالًا لِما أُنجز في شتّى العلوم الإنسانيّة، بفروعها وقطائعها وتحولاتها، ممّا يجعل من هذه الدراسات تكرارًا لا ينتهي لِمَا قيل منذ قرون وإعادةً للجدالات اللغويّة والأصوليّة الماضية، والتي نشأت ضمن سياقات سياسيّة معروفة، لا بدّ اليوم من تجاوُزها، لأنها جِدالات من شأنها فقط أن تلوّث الفضاء المعرفيّ وأن تحجب الدوافع الثقافيّة والسياسيّة التي ولّدت تلك الصّراعات وأعطتها مضامينَها. وتكرارُاها وقوعٌ في فخّها.
كما تجدر مُلاحظة البون البائن بين الدّراسات العربيّة وبين ما أنجزه الغربيون، وحتى العرب، باللغات الأجنبيّة في جامعات أوروبا وأميركا، وليس هذا البون سوى مَظهر من مظاهر التجاهل المتبادَل بين الباحثين على ضفّتَيْ المتوسط، وبيْن شَرقه وغربه، وهو ترجمة للشرخ المعرفيّ الذي يفصل بين الأبحاث وعدم أخذ بعضها البعض بعين الاعتبار، ممّا يشكل خسارة كبرى في موكب المعارف الذي يتقدّم بسرعة البرق.
ومن أمثلة هذا التجاهل استمرار تدريس البلاغة في العديد من الأقطار العربيّة وفقًا للنّهج التقليديّ الذي ساد منذ العصر السكولاستيكي، وعدم الأخذ بعين الاعتبار عِلم الأسلوبيّة، مع أنّه مضى على نشأته وتفرّع حقوله أكثر من قرنٍ كامل، وهو ما يخلق تفاوتًا شديدًا في طرق تحليل أدبيّة النصوص ومَناهج الشعريّة والسرديّات التي تُدرّس في جامعات الوطن العربي الواحد، بل وحتّى في القطر الواحد، وتشظّي النماذج المفاهيمية في نفس المؤتمر، بين مقولات موغلة في التراث ومفاتيح تفكيكيّة ظاهرة الحداثة.
ثورة معرفيّة طال انتِظارها رغم مَسيس الحاجة إليها
ومن أمثلة الهَدَر المعرفيّ أيضاً وجود معاجم تاريخيّة عديدة للّغة العربيّة، في نفس الوقت، مع أنّ "معهد الدراسات بالدّوحة" هو الذي أنجز فعليًّا "معجم الدوحة للغة العربيّة"، حيث انطلق العمل فيه سنة 2013 وظَهَر موقعه سنة 2017. وفي 2019، ظهرت هيئة عربيّة أخرى لإنجاز نفس العَمل؛ لكنْ، مهما تكن الاختلافات المنهجيّة كبيرة، فلن تفضي إلّا إلى فروق طفيفة في النتائج، وستذهب في سبيل ذلك ميزانيات ضخمة وتتشتّت طاقات جبّارة. ورغم إيماننا بمثاليّة هذه الدّعوة، فإننا نهيب بالهيئات المختصّة أن تَتَوافَق وتبحث سبلَ تكامل الجهود، عوضًا عن تنافسها، من أجل تَقسيم مجالات العمل لأنَّ وجود معاجم شتّى لنفس الهدف يدعو إلى العجب.
وللتصدّي لهذه المآخذ، نقترح من هذا المنبر إحداث "هيئة استشاريّة" تقوم بدراسات قطاعيّة حول وضع الأبحاث الألسنيّة، في كلّ بلدٍ عربيّ على حدةٍ، على أن تتولّى هذه الهيئة إسداء التوصيات العلميّة بناءً على تلك النتائج من أجل تطويرها ومدّ الباحثين بمجموعةٍ من التوجيهات المُساعدة على الالتحاق بالمستوى العالمي للأبحاث، ومطابقتها لواقع الدّرس اللغوي ومواصفاته العالميّة، للقطع مع حالة "اللامواكبة" التي تَسِم سائر الأوساط البحثيّة في العالم العربي. على أن تكون هذه التوصيات قِطاعيّة، تركّز على مجالاتٍ جغرافيّة ومعرفيّة بعينها، بحيث تبدأ مراجعة حُقول البحث الألسني الواحد تلو الآخر، حسب الأوليات والمناهج في سبيل تحقيق "ثورة معرفيّة" طال انتِظارها رغم مَسيس الحاجة إليها.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس