ثمة مفارقة لازمت المؤرّخ والمفكّر التونسي هشام جعيّط طوال حياته (1935 - 2021)، وها أن رحيله، أول أمس، يؤكّدها حيث التوقف عند الاسم دون الوصول إلى المتن. لم يكن جعيّط يفتقر إلى اعتراف معاصريه بمكانته المعرفية، لكنه بقي في الظل لا يغادره؛ مرّة بسبب إقصاء سياسي - زمن حكم زين العابدين بن علي - لأنه لم ينخرط في "الحفلة التنكرية" التي دُعي إليها الأكاديميون، ومرة بقرار - لا يهم إن كان شخصيّاً أم خارجاً عن نطاقه - جعله غائباً عن الفضاء العام الذي بات مسكوناً بالفوضى واللامعنى، ما ولّد لديه خيبة أمل في "الثورة التونسية" كانت تظهر جلية كلما تحدّث إلى وسائل الإعلام، وهو لا يفتأ يعيبُ عليها، وهو في حضرتها، إقصاء المفيد والعميق والترويج للزائف والخفيف. لم يكن يخفي خيبته من حكم التهميش الجديد المفروض عليه. هكذا تغيّرت أحوال البلاد، بمناخاتها وعلاقاتها وتقلباتها ومخيالها، فيما ظلّ جعيّط حيث هو؛ مَعلَماً مهجوراً في بلد يعاني من التصحّر.
إذا قصرنا نظرنا على الدولة أو النخب، يمكن القول بأن صاحب "تأسيس الغرب الإسلامي" قد استوفى حقوقه من الاعتراف والتبجيل. ترأّس "المجمع التونسي للآداب والفنون والعلوم - بيت الحكمة" بين 2012 و2015، ونُظّمت حوله الكثير من الندوات التكريمية، وصدرت كتبٌ جماعية حول تجربته، ناهيك عن تجدّد طبعات مؤلفاته ونفادها كلما شاركت بها "دار الطليعة" في دورات معرض "تونس الدولي للكتاب".
علينا أن نضع كل ذلك جَنْبَ كلمة قالها في 2016 ضمن ندوة تكريمية: "كتاباتي حازت سمعة طيبة لكنها لم تُقرأ"، وجنب مقولة له وردت في كتاب "أزمة الثقافة الإسلامية" (2000): "أشعر أنني مُهان في انتمائي إلى دولة بلا أفق ولا طموح (...) لا يوجد فيها علم ولا عقل ولا جمال ولا حياة ولا ثقافة حقيقية، هذه الدولة تقمعني؛ وأنا أختنق في هذا المجتمع الإقليمي، المزيف والجاهل". إنها شهادة تاريخية حزينة أخرى عن تونس (بعد ابن خلدون، خير الدين، بيرم التونسي...)، وقس عليها حال بقية البلاد العربية.
يضعنا رحيله أمام إشكالية بقاء المشاريع الفكرية بلا ورثة
بضمير مستريح، يُختصر تكريم المفكّر في تنظيم ندوة احتفائية أو تجهيز كتاب جماعي أو إطلاق دورة من معرض الكتاب باسمه. لكن ما الفائدة إذا بقيت أفكاره محجوزة طيّ مؤلفاته، مثل بئر معطلة، فلا يروى مما فيها المجتمعُ؟ مثلاً، هل غذّت أعماله في التاريخ كتابة الرواية أو سيناريوهات الأعمال الدرامية؟ أي تراكم جدليّ رافق كتاباته الفكرية؟ وماذا عن استفادة الدولة وسياساتها من تجربته؟
يضعنا جعيّط في مواجهة الفجوة الرهيبة التي تفصل ما تنتجه الأنتلجنسيا عن الناس، وعن الفعل في الواقع. يضعنا أيضاً أمام إشكالية بقاء المشاريع الفكرية بلا ورثة. يحضرنا هنا اشتغاله التفكيكي على "الإسلام المبكر" (ثلاثية السيرة، وكتاب "الفتنة" خصوصاً) باعتباره رأس الخيط الذي يوصلنا إلى الإشكاليات الكبرى لواقعنا اليوم من تأخّر حضاري وانتشار العنف، الفكري قبل المادي. صحيح أن الكثير من الباحثين - ومعظمهم من طلبته - قد اشتبكوا مع المناطق البحثية نفسها، لكن أفق مشروع جعيّط يبدو غائباً بامتداداته التي تفيض عن البحث التاريخي إلى الفلسفة والمعمار وعلم النفس والاقتصاد وغير ذلك.
ذات مرّة، تحدّث جعيّط عن اختياره التاريخ اختصاصاً حين كان طالباً في خمسينيات القرن الماضي في باريس، هو الذي كان مفتوناً أكثر بحقول معرفية أخرى مثل الفلسفة والأدب واللغة، لكنه اعتبر في النهاية أن التاريخ هو البحر الذي تصب فيه كل الأنهار، ثم قرّر أن يتخصّص في التاريخ الإسلامي حين رأى أنه مادة اختطفها أكاديميو الغرب مثل لقية أثرية، ومن ثمّ قوّلوه ما ليس فيه.
عاد إلى بدايات الحضارة الإسلامية باعتبارها ينابيع استئناف
كانت أطروحته التي ناقشها عام 1981، هي مادة كتابه الشهير "الكوفة: نشأة المدينة الإسلامية". حظيت باهتمام سريع في الأوساط البحثية الفرنسية نظراً لاجتراحها مسالك بحث جديدة تقارب تأسيس المدن العربية بعد الإسلام باعتبارها وعاء سوف تتبلور ضمنه مجمل المكوّنات الحضارية اللاحقة، مع استقصاء المؤثّرات القديمة (من بابل إلى مكة)، كما جعل من البحث تفكيراً في المدينة كمفهوم يعبٍّر عن ظاهرة تتكوّن بشكل عفوي ومدروس في آن، ولم ينس أن يراجع ما وقع تحت يديه من مراجع ليأخذ العمل بعداً آخر بنقد الاستشراق في لحظة غير بعيدة عن لحظة إدوارد سعيد (كتاب "الاستشراق"، 1979)، التي بدأت تهزّ الأرض تحت أقدام التزييف الأكاديمي.
كانت أبحاث جعيّط تقطع خطوة جديدة في نقد الاستشراق، بعد إدوارد سعيد (وأنور عبد الملك). فإذا كان المفكّر الفلسطيني قد أقام أطروحته على مدوّنة أدبية لكشف إسقاطات الغرب على الشرق قصد الهيمنة عليه، فإن جعيّط وضع تحت مشرطه كتابات المؤرخين، ولعلّها أخطر جرائم الغرب في حقّ تاريخنا.
في جنينيّته، مرّ البُعد النقدي للاستشراق في كتابات جعيّط دون أن يثير ردّ فعل عنيفاً من الدوائر الأكاديمية الفرنسية. سلّط قرّاؤه الضوء على المبتكر من أفكاره والإضافات التي أخذ يقدّمها باحثٌ شاب تتوازن في عمله المعرفة بالمصادر العربية والمناهج التاريخية الحديثة. لكن رياح الإعجاب التي دفعت باسمه سريعاً إلى دائرة الضوء سرعان ما انقلبت ضدّه، إذ ظهرت نبرة انزعاج ليس فقط من نقد الاستشراق بل لأن مؤرخاً عربياً متمكّناً كان ينهي وساطة الباحثين الغربيين بين العرب وتاريخهم. وقد انتبه جعيّط بنفسه إلى هذه النقطة، حتى أنه قال ذات مرة إن كتابه "الفتنة" (صدر بالفرنسية عام 1989)، قد "أنهى الاستشراق"، والعبارة له، بمعنى أنه منعطفٌ استعاد فيه المؤرخ المسلم الحق في الحديث عن الإسلام ولم يعد هناك من يجادل بعدم اكتمال عدّته المعرفية لدراسة تاريخه.
تفيض أبحاثه عن التاريخ إلى الفلسفة والمعمار وعلم النفس
هذه الجرأة على الكتابة التاريخية الغربية كانت أرضية أخرى يقف عليها جعيّط ولم يُورّثها (أو لم يجر استلامها على النحو الأمثل)، فهي تحتاج ندّية معرفية مع مادة البحث من جهة ومع من كتبوا عنها في وقت سابق. قبل المؤرّخ التونسي كانت العديد من المواضيع تبدو متعالية على الباحثين، كإدخال السيرة النبوية تحت سقف التأريخ المنهجي أو فحص روايات الفتنة الكبرى على أساس وثائقي. وفي مجمل أعماله، قطع جعيّط مع التنميط في الكتابة التاريخية العربية، فتجاوز التقسيمات الزمنية المبسّطة، وأنهى محورية الشخصيات الكبرى واستبدلها بمفاهيم الدولة والمدينة والأزمة والأيديولوجيا مع تجليسها لمقاربة التاريخ الإسلامي، فالفتنة يمكن دراستها من منطلق نظريات الأزمة المعاصرة، والصراع بين الفرق يمكن فهمه باستدعاء مفهوم الحزب السياسي.
وإذا كان المؤرخ قد انشغل بكل ما هو موغل في القدم: قضايا التأسيس والبدايات؛ فإن المفكّر قد عالج الحاضر، الراهن والحارق، من أسباب تعطّل المعرفة وانحسار الرؤية النهضوية وتدهور السياسة، مبيّنا شبكة التناقضات التي تعيق كل نهوض، وداعياً في الوقت نفسه لعودة العرب إلى التاريخ.
ربما ذلك ما يفسّر عودة هشام جعيّط المكثّفة للبدايات، إنها ينابيع استئناف، ومدوّنته يمكن أن نقرأها كـ"سفر تكوين" للحضارة الإسلامية، ومنها تتفرّع مسالك وإمكانيات تحجبها فوضى الواقع. تلك الفوضى التي تحجب أيضاً محاولات المؤرّخ للاعتناء بعلاقة المعاصرين بماضيهم. تلك واحدة من مآسي ثقافة تُمعن في إهدار رأسمالها الرمزي.