مستنداً إلى أكثر من عشرين كتاباً حول العالم العربي (منها "المملكة المستحيلة: فرنسا وتكوين العالم العربي"، "الشرق العربي: النزعتان العروبية والإسلامية من 1789 إلى 1945"، "تاريخ العالم العربي المعاصر"، "الماضي المفروض"...)، ومن موقع متقدّم ضمن التخصّص بالعالم العربي في فضاء الثقافة الفرنسية، يجسّده الإشراف على كرسي التاريخ المعاصر للعالم العربي في "كوليج دو فرانس"، إحدى أعرق مؤسسات المعرفة في فرنسا (تأسّس في 1530)، قدّم هنري لورانس (1954) قراءة عن إنتاج المعرفة الفرنسية حول العالم العربي ضمن مؤتمر "التفكير في العلوم الإنسانية في العالم العربي" الذي نظمه، بين أمس وصباح اليوم، "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" (فرع باريس) بالاشتراك مع "كوليج دو فرانس"، وفي إحدى قاعاته أقيمت وقائع المؤتمر.
بعضُ المواضيع لا يمكن أن تُطرح باعتبارها محتوىً خالصاً، فهي لا تأتي إلا برفقة عناصر حافّة تعيد تركيبها. محاضرة لورانس بالذات، وهي تتناول مسألة المعرفة الغربية لمنطقتنا العربية، لا يمكن فصلها عن مفاهيم مثل الموقع الذي يتحدّث منه المُحاضر، وتشكّل "المكانة العلمية" حول العالم العربي في سياق الثقافة الفرنسية، وربما أيضاً لا يمكن فصلها عن الوزن التاريخي لفضاء المحاضرة، وقبل ذلك مواقعنا نحن كمتلقين، وخصوصاً حين ننظر إلى الأطروحات المقدّمة من موقع إشكالي بالضرورة، موقعنا نحن عرب القرن الحادي والعشرين، أي ما يُفترض أن يكون موضوع بحث العلوم الاجتماعية الغربية التي كرّست جهودها لفهم منطقتنا. وهذا الموقع يدفعنا إلى أسئلة مسبقة: هل تنفع أدوات علوم ادعت الكونية في فهم ما يختلف عن البيئات التي أنتجتها؟ وحتى إذا وعت بذلك، وأقرت بنسبية أدواتها، هل تستطيع أن تغادر الرؤية المركزية النابعة من أسبقيتها التاريخية؟ ثم، قبل ذلك، هل نحن قابلون للفهم؟ مثلُ محاضرة لورانس تمثّل فرصة كي نجادل هذه المعرفة الغربية عنا، وأن نرسم على الأقل ملامح ما وصلت إليه في مراجعاتها لنقائصها.
في بداية كلمته، ترحّم المؤرخ الفرنسي على ضحايا الزلزال الذي هزّ سورية وتركيا منذ أيام، ومن اللطائف التي يذكرها، تلك العلاقة التي تجعل من كارثة طبيعية قادحاً من بين عوامل أُخرى للتفكير وتطوير المعارف، ويذكر في هذا السياق الجدل الفكري الذي قام في أوروبا حول زلزال لشبونة (1755) بين فلاسفة التنوير، وهي لحظة تصادف بداية تأسيس العلوم الاجتماعية في الغرب. كأن لورانس هنا فضّل البقاء عند عتبة التلميح لما تخلقه هذه الأحداث القوية من قطائع على المستوى الفكري، حيث تعرّي عجز البراديغمات القديمة في تقديم تفسيرات للمستجدات.
محاضرة لورانس تمثّل فرصة كي نجادل المعرفة الغربية عنّا
بالعودة إلى المادة التي أعدّها لكلمته الافتتاحية للمؤتمر، اعتبر لورانس أنه قلما جرى الانتباه إلى أن العلوم الاجتماعية الحديثة قد بدأت تتبلور في فضاء الثقافة الغربية في الوقت نفسه الذي تمأسست فيه الرحلات الأوروبية إلى الشرق (القرن الثامن) وبدأت باريس خصوصاً تشهد تراكماً معرفياً حول المنطقة.
يرى لورانس - وله الحق في ذلك - أن كوليج دو فرانس يتمركز في موقع جيد لكي يكون شاهداً عن مسار تاريخ المعرفة الفرنسية بالعالم العربي. يرسم هنا بورتريهات سريعة لعدد من الشخصيات المعرفية من خلال مشاريعها حول العالم العربي مثل ألفريد لوشاتلييه الذي قال بضرورة تطوير علم الاجتماع، بحيث يمكنه دراسة هذه المنطقة، فالأدوات المفاهيمية التي قدّمها آباء علم الاجتماع الأوروبي مثل أوغست كونت وماكس فيبر وإميل دوركهيم لم تكن تفي بحاجات دارسي المنطقة العربية. أما المشروع المعرفي الأشهر، فهو الذي قدّمه لوي ماسينيون، والذي أقام طرحه على مقولة فهم العالم العربي من الداخل، فيما أدخل لاحقاً جاك بيرك البعد ما بعد الكولونيالي في جهود فهم العالم العربي، ودعا للتفكير في الشعوب العربية من زاوية بحثها عن التحديث.
من الواضح أن لورانس يقرّ بعدم كفاية جميع هذه الجهود في فهم الظاهرة العربية. نفهم ذلك ليس خلال المحاضرة، بل في النقاش لاحقاً حين تذكّر في سياق سؤال لم يكن موجّهاً إليه بأنه كتب ذات مرة أن "ثورات 2011 هي أيضاً ثورة مواضيع البحث على محلّليهم"، وهو اعتراف بما لم تستطع بلوغه المعارف الاجتماعية الفرنسية حول العالم العربي. وبشكل عام، لم يقدّم لورانس المشاريع المعرفية التي كان إطارها كوليج دو فرانس من منطلق نقديّ، ولعلنا نجد له ذريعة في ذلك بمقتضيات المحاضرة الافتتاحية، فهي ليست مقام فحص وتمحيص.
يُذكّر الباحث الفرنسي كذلك بسياق تأسيس ما عُرف خلال القرن التاسع عشر باسم العلوم الكولونيالية، ويربط هذا المشروع بسياق أشمل، هو اكتمال تأسيس العلوم الاجتماعية في الغرب، والتقاؤها مع التقدم العسكري والدبلوماسي الذي جعل عدداً من الشعوب مستعمرة وأخرى قابلة للاستعمار، ومن ثم ضرورة إيجاد أدوات سيطرة جديدة. إلى هنا، بقي المنظور الذي قدّم منه لورانس العالم العربي مقتصراً على انعكاس صورته في الغرب، وبالتالي لم يكن سوى عامل تنشيط للمعرفة الأوروبية.
لكن صاحب كتاب "الماضي المفروض" رسم خطاً آخر في قراءة تاريخ المعرفة العلمية بالعالم العربي، وهو نشأة الجامعات في المنطقة، ويدعم هذا الخيار بقوله: "لا وجود لعلوم اجتماعية دون جامعة". لكن هذا المدخل لا يؤدّي إلا إلى القول باليد الغربية في بناء الجامعات العربية، فيذكر المحاضر سريعاً دور التنافس الغربي بين فرنسا الكاثوليكية وأميركا البروتستانتية في ظهور أولى الجامعات في لبنان، وصولاً إلى اللحظة المفصلية في 1928 حين أقدم فؤاد الأول على إنشاء جامعة القاهرة غير أنها بُنيت ضمن تصوّر أن تكون سوربون العرب.
سريعاً، أيضاً، يعرّج لورانس على من يسميهم أنثروبولوجيي الحرب الباردة، وهي الفترة التي وضعت فيها الولايات المتحدة قوتها المعرفية لفهم العالم العربي، مشيراً إلى تمويلات عسكرية ومخابراتية ظهرت في ما حفّ من أبحاث حول العالم العربي.
يذكر لورانس أيضاً منطقة طريفة في لقاء المعرفة الغربية بالعالم العربي، حين أتى على ذكر "المخبرين" (أو "المُبَلِّغين المحلّيين")، وهنا علينا ألا نأخذ الكلمة بمعناها الشائع، فهؤلاء أشخاص من أهالي المنطقة المدروسة يعملون مساعدين وأدلة ومترجمين للباحثين. من جانب، يُحسب للورانس انتباهه إلى أثر هؤلاء على المنتج العلمي الذي يقدمه الباحثون الغربيون، بل يذهب للقول إنه "لا يمكن الحديث عن علوم اجتماعية دون مخبرين. لقد أثروا دائماً على الباحثين". لكن من زاوية أخرى، ماذا يفعل "المخبر" أكثر من تكريس صورة التبعية للباحث الغربي؟
نقف على إشكالية المعرفة الغربية وهي تعيش مرحلة مراجعاتها
حين يعود إلى الخط الرئيسي لقراءته لتطور الجامعات العربية، يصل لورانس إلى أيامنا فيلاحظ ظهور أشكال جديدة من الجامعات، ظهرت في الخليج أساساً، تمثّل استنساخاً لجامعات أوروبية وأميركية. يذكر الباحث الفرنسي أن هناك تكنولوجيات تسخّر للمعرفة ما يساهم في تطوّرها، لكن لا يعني ذلك وجود علوم اجتماعية حيث أنه "لا توجد علوم اجتماعية دون فكر نقدي".
خلال كلمته التي لحقت المحاضرة، عقّب سلام كواكبي، مدير فرع باريس من "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، على هذه الملاحظة تحديداً، باعتبار أن لورانس لم يتطرق إلى التجربة التي أطلقها المفكر العربي عزمي بشارة مع "معهد الدوحة"، حيث تقدّم هذه المؤسسة محاولة لتوطين المعرفة والاشتغال على بناء فكر نقدي، أي إنها تعمل في المنطقة نفسها التي لاحظ فيها لورانس نقصاً.
بشكل عام، بدا لورانس متحاشياً لمثل هذه المحاذير، فخطاب محاضرته قائم على تنسيب وتعميم، وقد تساءل أكثر من مرة: أليس الخطاب الذي أنتجته العلوم الاجتماعية حول العالم العربي متضارباً مع الخطابات التي تنتجها المجتمعات المدروسة؟ السؤال وجيه، لكن التقدّم للإجابة غائب.
لعلها إشكالية هذه المعرفة الغربية بشكل عام، وهي تعيش مرحلة مراجعاتها. هي لا تستطيع أن تنكر تاريخها، ولا أن تحقّق قطيعة معرفية نحو تصوّرات جديدة. ربما تطلب يد المعونة من الباحثين العرب، وقد أشار إلى ذلك لورانس بلطف حين قال إن من بين الإشكاليات المطروحة اليوم أن الباحث الفرنسي يجد صعوبة كي يعرف ما تقوله هذه المجتمعات عن نفسها، ومن ثم يعرج على إشكالية أخرى: "نحن الباحثين الفرنسيين مترجَمون الى العربية، لكن لا نعرف ما يقوله العرب عنّا".
نفهم بالتدريج أن هناك وعياً يتطوّر بإشكالية المنطقة العربية في البحث العلمي أوروبياً، لكن هل يكفي الوعي بإشكالية لحلها؟ وأبعد من ذلك، لماذا تظلّ هذه المعرفة مُفلتة، رغم كل هذا التقدّم في المراجعات التي إذا كانت تجيبنا عن شيء، فهو أننا لم نُفهم بعد. ولا يبدو ذلك قريباً كما تشير خلاصات محاضرة هنري لورانس. ألا يدعونا ذلك إلى أن نسبق في الحفر في هذه الإشكالية: لماذا نحن مستعصون على العلوم الاجتماعية؟