لكلِّ ثقافة من الثقافات المعاصرة أبطالها، سواء كانوا من طينة الأرض أم من فضاء وغيوم التوهم، ولكل ثقافة وسائل سرد مختلفة، ما تقادم منها وما استحدثته التقانات المعاصرة، المتخيل منه والواقعي، للأطفال والكبار، للأصحاء ولذوي الاحتياجات الخاصة.
التاريخُ القريب ممتلئ بأمثلة نتداولها كطرائف. ففي منافسة لشخصية "سوبرمان" الأميركي المستورد تخيّلاً من كوكب بعيد منفجر، اخترع الفرنسيون "أستريكس" المستورد تخيلاً من ماضي قبائل "الغول"، مثلما سبق لهم وأن اخترعوا المخبر السري "أرسين لوبين" في مواجهة الإنكليزي "شرلوك هولمز"، وقبلها رجّ الإنسانُ، ربيب القردة طرزان ابن اللورد الإنكليزي غريستوك، الذي اخترعه الأميركي إدغار بوريس، شاشات السينما بصرخته الشهيرة منذ أوائل القرن العشرين، لتنشر ثقافة الرأسمال المتوحش، على لسان مخترع طرزان، مقولة إن الخالق خص دماغ الرجل الأبيض بشرارة الإبداع وحرم منها دماغ الرجل الأسود والأسمر، وإن العرب في أفريقيا هم مجرد تجار رقيق ولصوص وهمج!
بعض هذه الثقافات تجاوز حدود وتاريخ بلده، فاستولى على "أبطال" ثقافات أخرى، مثل الثقافة العربية، كما استولى على أراضي شعوبها، وقولبهم وأعادهم إليها. وهكذا قدم لنا الغرب منذ وقت مبكر شخصيات علاء الدين بعد أن جعله المترجم الفرنسي أنطوان غالان صبياً شرهاً بليداً، والسندباد المغامر لمجرد المغامرة، وحرامي بغداد الملصق بتاريخ بغداد، من دون أن يعرف أحد من أين جاء به هذا المترجم، بل وحتى الخليفة هارون الرشيد نفسه ووزيره جعفر، وهم يتحولون في قصص مكتوبة للأطفال تارة إلى دمى بأيدي السحرة أو إلى غرانيق وأغربة تارة أخرى.
جرى مسخ "أبطال" الحكايات العربية حين كُتبت في الغرب
ولكن الغرانيق والأغربة، وصورة "علاء الدين" البليد، الذي لا يجد ما يطلبه من المارد الظريف بعد أن يخرج إليه من المصباح غير الطعام والثراء والقصور الفارهة، على خلاف البطل الغربي "فاوست" الذي وصلت به الحال إلى أن يعد الشيطان بالتنازل له عن روحهِ إن منحه سلطة المعرفة، والقدرة على رؤية ماضي البشرية ومستقبلها، ليست هي وحدها ما تحمله الثقافات الغربية التي تخترع أبطالاً من العدم أو الدخان أو من شظايا كواكب منفجرة، وتملأ بها مجلاتنا وشاشاتنا ومخيلات أطفالنا وحلقات نقاشنا، بل تحمل أيضاً وجهة نظر ورؤية إلى العالم، ونحن جزء من هذا العالم، بل وكنا وما زلنا محوراً من محاور رؤيتها وتركيزها منذ زمن بعيد، وهدفاً للعرض على مسارحها، نحن والشرق كله، تارة في صورة بداة همج يشوون الناس كما يُشوى الكباب على السفّود، وتارة في صورة وحوش تسير بلا رؤوس، أو تنبت لها عيون في صدورها، كما تظهرنا مخطوطات مصوّرة في قرونهم الوسطى ومحفوظة في خزائنها حتى الآن، فضلاً عن ملاحقة قادتنا الدينيين والفكريين والمخترعين إلى العالم الآخر وزجهم في جهنم، معرضين لأبشع أنواع التعذيب بأدوات تخيلتها أوروبا واخترعتها في قرونها المظلمة، كما ترسمهم "كوميديا" الإيطالي دانتي أليغيري السماوية.
ولكن هذه المسارح، وإن امتلكت سلطة على أذهان فلاحي أوروبا الجهلة في تلك الأيام، وجندتهم لخوض حروب الفرنجة طوال قرنين على أمتنا، لم تكن تصل إلينا كما يحدث الآن في عصر التقانات ووسائل الاتصال الحديثة، ولهذا لم تمتلك سلطة علينا في الماضي.
وها نحن نراها تعود الآن على شكل سرديات تكذب وتكذب حتى منقطع النفس، مثل الغرب "عاشق" الديمقراطية، والمدافع عن حقوق "الإنسان"، بل والمثقل بعبء مهمة "تحضير" الشعوب المتخلفة، وأخيراً يتحفنا فنه القصصي والسينمائي بسرديات خرافية تبلغ أعلى درجات الإسفاف مثل سردية "سيد الخواتم" الخرافية أو سيد االعوالم كما أريد له أن يعني، تلك التي تهاجم فيها جيوش قادمة من أعماق خرافات أوروبا، قلاع الشرق المتهم بكل أنواع الشرور، فيرفع قائدها أمام جحافلها سيفه هاتفاً "دافعوا عن الغرب!". ويحدث هذا بعد خلطة عجيبة يتجند فيها الجن وقرويو الشايرات الإنكليزية، وملوك قلاع القرون الوسطى، وسكان الجبال الموتى، ليواجهوا آكلي اللحوم الشرقيين.
نحن في حاجة لسرديات مضادة تواجه خرافات الرأسمالية
أمام هذا أصبحنا بحاجة ماسة إلى سرديات مضادة، ليس ضد سرديات خرافة حضارة الرأسمالية وهي تبلغ أعلى مراحل توحشها فقط، بل وأيضاً ضد سرديات تأتينا من الداخل، وبلغة عربية يكتبها ويذيعها كاتب من هنا وهناك، وتبثها وسائط مختلفة، تنسج على منوال هذه السرديات، وتتبنى بابتهاج ما تختلقه من تواريخ، وما ترسمه من صور لأبطال تاريخنا، فتحوّلهم إلى مسوخ أكلة لحوم بشر كما فعلت بنا في قرونها الوسطى. وكما تفعل مع سكان كواكب المجرات البعيدة الذين لا تتخيلهم إلا على صورة وحوش عجيبة، أو آلات متوحشة، من دون أن يسأل أحد عن دوافع هذا الخيال العجيب الذي لا يرى في "الآخر" و"الغير"، سواء كان أخاً في الإنسانية أو كائناً متخيلاً من الكواكب البعيدة، إلا متوحشاً بهيمياً غير عاقل.
نحن بحاجة إلى سرديات تخلق أبطالها الواقعيين، أبطالاً ملموسين مثل واقعهم، لأننا لسنا بحاجة إلى اختلاق خرافات تضاف إلى مخزون طافح بكل أنواع الخوارق. نحن بحاجة إلى تقديم الرواية العقلانية وليس روايات تحالف الجن والموتى والأحياء. السرديات، كما يقول إدوارد سعيد، تقع في قلب ما يقوله المستكشفون والروائيون عن مناطق العالم الأخرى الغريبة بالنسبة لهم، وتقع السرديات أيضاً في قلب حاجة الشعوب التي تعرضت للغزو إلى تأكيد هويتها ووجود تاريخها.
في هذا العصر تندفع "حضارة رأس المال" للاستيلاء على كوكب الأرض وثرواته كما يصرّح ولاتها وموظفوها بلا مواربة، وحين يصل الأمر إلى من يملك الأرض، ومن له الحق في استيطانها والعمل فيها، ومن يدير شؤونها، ومن يستعيدها، ومن يخطط لمستقبلها الآن، ينعكس كل هذا ويناقش في السرديات، وفي القلب منها.
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين