صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب "داخل السور القديم: نصوص قاسم الريماوي عن الجهاد المقدس"، وهو دراسة تحقيقية نقدية، عمد فيها بلال محمد شلش إلى تحقيق نصوص لأحد أبرز قادة "الجهاد المقدس"، السياسي والأكاديمي قاسم محمد الريماوي (1918-1982): الأول، تقريره عن الجهاد المقدس المقدّم إلى رئيس الهيئة العربية العليا الحاج محمد أمين الحسيني في عام 1949؛ والثاني مخطوطه عن عبد القادر الحسيني، الذي خطّ مسودته مطلع الخمسينيات.
نظّم "المتحف الفلسطيني" في بلدة بيرزيت الفلسطينية جلسة افتراضية عبر تطبيق زووم عند السادسة من مساء الأربعاء الماضي لإطلاق الكتاب، في حوار بين أستاذ التاريخ الحديث والباحث الفلسطيني جوني منصور ومؤلّفه.
أشار منصور إلى أن "نصوص الكتاب ليست بحثاً تاريخياً تعكس الحالة التي عاشها الريماوي خلال فترة زمنية بالغة الدقة بين عامَي 1947 و1949، أو بعدها، أي منذ قرار تقسيم فلسطين (181) الصادر عن الأمم المتحدة، وانتهاءً بتوقيع الأنظمة العربية المشاركة في المعارك على أرض فلسطين لاتفاقيات الهدنة سنة 1949.
يضيء الكتاب تأسس جيش الجهاد المقدس ودور الريماوي في وضع الخطط لمواجهة العدو الصهيوني
وأوضح أنه يجب الأخذ بالاعتبار تلك "العوامل الذاتية والعوامل المحيطة ببيئة الكاتب التي أثّرت في كتابته المذاكرات والسير الذاتية، وأنه يحاول قدر الإمكان أن يكون محايداً، رغم صعوبة البقاء على الحياد لمن يكتب عن أحداث عاشها، فعملية استعادة الذاكرة حولها العديد من التساؤلات، مثل: ماذا يريد كاتب هذه السيرة؟ وكيف يختار الأحداث التي يكتب عنها، وكيف يرتبها؟ بمعنى أن هناك تدخلاً في النص التاريخي".
وطرح منصور عدّة تساؤلات، هي: من هو قاسم الريماوي في سياق هذا الكتاب؟ وكيف تأسس جيش الجهاد المقدس والدور الذي لعبه قاسم الريماوي حصرياً في تأسيسه وتطويره ووضع الخطط العسكرية والحربية لمواجهة العدو الصهيوني بعصاباته كافة، ثم المواجهات التي خاضها بعد تأسيس الجيش الإسرائيلي في حزيران/ يونيو 1948؟ وهل كانت هناك خطّة لتأسيس أول جيش فلسطيني في القرن العشرين في ظلّ أزمة خطيرة مرّ فيها الشعب الفلسطيني؟ والتساؤل عن شخصية قاسم الريماوي الذي كان معارضاً لتفكيك "الجهاد المقدس" الذي كان يتكوّن من جهات عديدة ومجموعات كبيرة افتقدت التنسيق فيما بينها على الأرض في مواجهة مشروع احتلالي كبير؟
ولفت إلى "اختيار الريماوي تعبيراته ومفرداته التي تحيل إلى نبرة فيها قوة واندفاعية ودفاع عن الحق والوجود الفلسطيني، وإبراز قدرة الفلسطيني في إقامة قوة يحمي بواسطتها الوطن ويسعى إلى تحريره"، وهو ما يفسّر، من وجهة نظره، خوض عبد القادر الحسيني معركة القسطل بعد أن أدرك أن الوعود العربية بدعمه لن تجد طريقها إلى التحقق، وكيف تغيّرت نبرته واختيار تعبيراته بعد ذلك بفترة زمنية.
أما بلال شلش، الباحث في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، فاستعرض محاور كتابه الأساسية الذي اعتمد عدّة نصوص للريماوي، أولها تقريره عن الجهاد المقدس المقدّم إلى رئيس الهيئة العربية العليا الحاج محمد أمين الحسيني في عام 1949، بعد إنهاء جيش الجهاد المقدس في بيرزيت وانتقاله إلى القاهرة، بهدف تقديم نقد ذاتي وملخّص لمسيرة الجيش، وثانيها مخطوطه الذي تناول فيه سيرة عبد القادر الحسيني، والذي خطّ مسودته مطلع الخمسينيات في القاهرة أيضاً، مستنداً إلى مصادر متعدّدة، منها مصادر شفوية من زملائه في الجهاد، إلى جانب مجموعة مقالات كتبها الريماوي في الصحف المصرية حول تأسيس "الجهاد المقدس"، ثم بعد أن انتقل إلى الأردن حيث استكمل كتابته حول عبد القادر الحسيني عام 1970 في ذكرى استشهاده، وركّز فيها بشكل أساسي على الخذلان العربي له.
وأشار إلى أنه بدأ الاشتغال على الكتاب عام 2010 خلال إعداد دراسة الماجستير عن الحرب، حيث توصّل بداية إلى مقالات الريماوي في "جريدة الدستور" الأردنية المتأخرة، وخلال حوار مع الباحث والكاتب معين الطاهر، الذي أبلغه أن أسرته منحت "المركز العربي" أخيراً مخطوطاته لحفظها في أرشيف المشروع الخاص لتوثيق القضية الفلسطينية، لتبدأ رحلة البحث بالاستناد إليها، وصولاً إلى إصدار هذا الكاتب.
يجمع الكتاب بين السيرة الذاتية والسيرة الغيرية حول عبد القادر الحسيني وتأريح حرب فلسطين
وأوضح شلاش أن اهتمامه بهذا الجانب من الكتابة التاريخية يعود إلى أن جميع المشتغلين بتأريخ فترة الحرب يتحدثون عن وجود رواية عربية مغيّبة مقابل اشتغال صهيوني هائل لتأريخ الحرب، ما قاده إلى تلمّس النصوص الأقرب إلى تلك الأحداث، حيث اكتشف وجود كمٍّ هائل من الوثائق الفلسطينية حولها، التي قرأ جانباً منها في كتابه "يافا.. دم على حجر: حامية يافا وفعلها العسكري - دراسة ووثائق" (2019)، محاولاً إبراز تلك النصوص المُسكتة لأسباب مختلفة.
ونبّه إلى التحولات التي عاشتها قيادة جيش الجهاد المقدس بعد تفكيكه، حيث اندمج بعض أفرادها في الحياة السياسية في فلسطين الوسطى، بعد ضمّها إلى المملكة الأردنية الهاشمية، مثل عبد الله نعواس وعبد الله الريماوي وكامل عريقات، إلى جانب قيادات شاركت في الحياة السياسية بشكل غير مباشر، ومنها بهجت أبو غربية، بينما انتقل قاسم ومعه قيادة جيش الجهاد المقدس في بيرزيت إلى القاهرة، وكان مسارهم مختلفاً نوعاً ما، حيث بقوا على معارضتهم للنظام الهاشمي، واستكمل بعضهم حياته في التعليم، وبعضهم الآخر في العمل في مكاتب الهيئة العربية العليا بدمشق وبيروت والقاهرة، ومواقفهم تغيّرت أحياناً باختلاف البيئات التي عاشوا فيها.
وبيّن كيف شكّل اغتيال الملك عبد الله حدثاً جوهرياً، حيث طوى الملك الحسين صفحة خلافاته مع العديد من خصومه، واستقطاب وجوه جديدة سيكون أبرزها وصفي التل، حيث ترافق صعود الأخير مع صعود قاسم الريماوي سياسياً، حيث كانت ميوله "وصفية"، بحسب تعبير شلش.
يتوقّف أيضاً عند مفارقة تتلخص في اختفاء أغلب الذين شاركوا في الحياة السياسية حتى عام 1957 (محاولة الانقلاب الفاشلة على النظام الملكي) سيختفون من المشهد جزئياً في السجن أو بالمطاردة، بينما سيبدأ نجم قاسم الريماوي بالصعود آنذاك، ما انعكس في كتاباته، وهو ما يحاول شلش توضيحه في مستويات الكتابة وطبقاتها حول حرب فلسطين، فبعد أن كانت لهجته شديدة في الهجوم على الملك عبد الله الأول وعلى من ناصره من الحسينيين، ستختلف لاحقاً روايته حول إنهاء جيش الجهاد المقدس لصالح رواية تلعب العوامل السياسية بعد أحداث أيلول/ سبتمبر عام 1970، حيث بات يبحث عن لغة وحدوية بين الشعبين الفلسطيني والأردني في مواجهة الاحتلال الصهيوني.
هذا التحوّل يوضّحه شلش في مقدمة كتابه بالإشارة إلى أن هذا النص "مركب" و"يتغيّر بتغير الأمكنة والأزمنة وتغيرات التحالفات السياسية، والتحولات الاجتماعية التي عاشها مؤلفه، لكنه يبقى نصاً مؤسساً ويظهر جانباً من المسكوت عنه، ويظهر رواية مقاتل متأثرة بالهزيمة التي تمثلت بإنهاء وجود "الجهاد المقدس"، ويظهر الإصرار على مواصلة".
ويرى أن كتابه يجمع بين السيرة الذاتية والسيرة الغيرية حول عبد القادر الحسيني، وهو في مجمله يشكل سيرة للقضية الفلسطينية خلال مرحلة الاحتلال البريطاني، وتأسيس المشروع الصهيوني، والحرب المؤسسة بين عامَي 1947 و1949، كذلك يعكس كيف تحوّل جزء من الشخصيات الفلسطينية منذ النكبة وحتى هزيمة حزيران/ يونيو 1967.